دموع عين الفيجة

دموع عين الفيجة

29 مايو 2019
+ الخط -
سأل الأستاذ: من منكم يستطيع أن يقول لي ما هو "أيلول الأسود"، فخيم على رؤوسنا الطير. كنا في الصف السابع، نمرح في استراحةٍ ما بين حصتين دراسيتين، حين دخل متجّهماً، على عادة معلمي المدارس في ذلك الزمان، وأمسك بأحد التلاميذ متلبسّاً بمطاردة آخر، بين المقاعد، وهو يصيح باسم المنظمة التي كان قد ذاع صيتُها، بعد أن تبنّت عملية اختطاف رياضيين إسرائيليين في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في مدينة ميونخ الألمانية عام 1972. تردّدت قبل أن أجيب، بحكم ضعف يقيني في المعلومات التي أملك، وكذا انتقالي حديثاً إلى المدرسة الإعدادية، ثم رفعت يدي، وتلسنت بجملتين قصيرتين، متلعثمتين، عن فصيل جديد أسّسه الفلسطينيون للكفاح ضد محتلي بلادهم الصهاينة، فانقلبت حال الأستاذ من الغضب إلى الحبور، ثم إلى الفضول، وإذ سألني كيف تسنّى لي أن أعرف ما أعرف، قلت، بكل براءة؛ إني ابن فدائي فلسطيني، أسمعه يتحدّث، مع أصدقائه، دوماً، عن القضية، وأقرأ المجلات والصحف التي يأتيني بها، كلما عاد من جنوب لبنان.
كانت تلك لحظة مفصلية، حولتني إلى "طفلٍ رفيع النسب" في نظر معلمي المدرسة، كما في نظر زملائي السوريين، أبناء الموظفين والمزارعين الذين تترامى قراهم على ضفاف نهر بردى. وإنْ أنسى، فلن أنسى، كيف عوّضني هذا الموقف، معنوياً، عن نواقص مادية كثيرة، أقَلُها أني كنت واحداً من قليلين بينهم، يعجز آباؤهم، مالياً، عن أن يحقّقوا لهم حلم اقتناء دراجات هوائية، ليذهبوا بها إلى المدرسة، ومنها أن البيت الصغير الفقير الذي كنا نستأجره لا يحوي أي مساحةٍ تسر الخاطر، بالمقارنة مع ما تملك عائلاتهم من بساتين غَنَّاء، مزروعةٍ بأشجار الجوز والخوخ والمشمش، ويقضون جل وقتهم في مذاكرة دروسهم، وممارسة لعبهم، تحت ظلالها.
صرت، من بعد، شريكاً مفضلاً لعدد كبير من أقران طفولتي في مشوار الذهاب والإياب مشياً على الأقدام، على طول خط السكة الحديد المحاطة بأشجار الحور والصفصاف، بين قرية بَسِّيمة، حيث كنت أسكن، وبلدة عين الفيجة، حيث تقع المدرسة، مروراً ببلدة عين الخضراء، كما صرت ضيفاً مرحباً به، في بساتينهم، ومصاطبها التي تحاذي بردى، وتظلّلها عرائش العنب.
لكن هذه القصة البسيطة لم تعد اليوم مجرد ذكرى للسرد، والحنين، بقدر ما غدت، وقد مرّ عليها أزيد من أربعة عقود، أشبه بعلامةٍ رمزيةٍ دالة، تقول، باختصار، إن الأصالة التي عبر عنها أولئك القرويون، عفوياً، باتخاذهم، صغاراً وكباراً، موقف الاحترام الجماعي للفدائي الفلسطيني المقاتل في سبيل تحرير وطنه، لم يكن لها مفرّ من أن تنفجر، في زمنهم، أو في زمن أبنائهم، وأحفادهم، على شكل ثورةٍ شجاعةٍ نبيلة، ضد الاستبداد.
وذلك، بالمناسبة، قد يصلح جواباً واقعياً على سؤالٍ افتراضي، طالما قال طارحوه: هل كان هؤلاء، وغيرهم من السوريين سيثورون، لو أنهم عرفوا مسبقاً كيف سيتكالب العالم عليهم، وكيف ستصبح قراهم وبيوتهم أهدافاً للقاذفات الحربية الروسية، ومسرحاً لجرائم المليشيات المذهبية الموالية لإيران، وصولاً إلى تهجير ألوفٍ مؤلفة منهم، وإجبار ألوفٍ آخرين على العودة إلى بيوت الطاعة؟
صحيحٌ أن أجوبة "التشبيح" في المعلن مما يقول أصحابها قد تذهب هنا إلى ترويج الاطمئنان القائم على قهر غالبية الشعب، غير أن نظام بشار الأسد، يتصرّف، رسمياً، كما لو أنه يدرك استحالة ألا تؤدّي دموع عين الفيجة إلى الثورة مجدّداً، مهما اشتد التنكيل بها، فتراه يمعن في معاقبة أهلها وأهل وادي بردى عموماً، لا بالقتل والاعتقال فحسب، وإنما بهدم أحيائهم السكنية، واستملاك أراضيهم، تحت ذريعةٍ توسيع منشآت نقل المياه منها إلى دمشق، مع إطلاق الوعود ببناء ضواح بديلة لهم، في مناطق بعيدةٍ عن النهر والبساتين، لتسهل، كما يبدو عمليات مراقبتهم، وسحقهم، إن ثاروا غداً أو بعد غد.
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني