جاستن ترودو.. صوت الضمير أم صوت كندا؟

جاستن ترودو.. صوت الضمير أم صوت كندا؟

28 مايو 2019
+ الخط -
تُشير القراءات الاستطلاعية إلى تقدم حزب المحافظين اليميني، وازدياد فرصه لإسقاط الحزب الليبرالي الحاكم في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول المقبل في كندا، وقد أطاح اليمين حكم الليبراليين، في أهم ولايتين، أونتاريو وكيبيك، في ظل صعود الثقافة اليمينية في المجتمع الكندي. وأبرز حدث ساهم في تراجع الحزب، وتهديد المستقبل السياسي لرئيس الحكومة، جاستن ترودو، كان في قضية الاتهامات التي وجهتها وزيرة العدل السابقة، جودي ويلسون – رايبولد، لترودو، في قضية مؤثرة للرأي العام الكندي، وهي تقديم مسؤولين في شركة لافلاين الكندية رشاوى للفوز بعقد مع النظام الليبي المخلوع.
تقوم التهمة التي رفضها ترودو، بحسب شهادة ويلسون، حول ضغوطٍ تعرّضت لها، لإيجاد مخرج تسوية عبر غرامة تدفعها الشركة من مكتب رئيس الوزراء ومن ترودو شخصياً، حتى لا تتضرّر المصالح الكندية، وآلاف الوظائف التي تؤمنها شركة البناء العملاقة، وأن الوزيرة التي تُمثل الموقف القانوني العدلي للنظام السياسي والحقوقي في كندا رفضت كل تلك الضغوط في حينه، لكن تسريب موقفها انتهى إلى عزلها، وعُرضت عليها وزارة بديلة رفضتها، وقد مثّلت تلك الشهادة مدخلا حيوياً في توقيتٍ مفصلي للمحافظين، لتحويلها لمقدمة لخسارة انتخابية قاسية لترودو.
في تاريخ كندا السياسي، وفي حركة الحياة التجارية والاقتصادية، هناك تداخل كبير بين شخصيات في الحزبين الرئيسيين، الليبرالي والمحافظ، وبين حركة الأموال العامة والاستثمارات، بمعنى أن مساحةً من الفساد، أو الابتزاز الضريبي، وضغطه على معيشة المواطن العام، كان قائماً قديماً، لكن مسارات الحماية والحقوق الفردية والضمان الصحي 
وغيره مثّلت كتلة من القواعد التي تؤمّن مجمل حياة الكنديين.
من دون أن يستطيع النموذج الكندي، المرتبط بعجلة تسليع الحياة اليومية، عبر ليبرالية السوق، وأصول النظام الرأسمالي، كفالة حقوقية اقتصادية تؤمّن للقواعد الشعبية محدودة الدخل مستقبلاً يحميها وأجيالها من الفقر، بناء على ثنائية الحجم الضريبي وغلاء المعيشة، وهذا طبعاً لا يُلغي مساحة القانون الدستوري والسيادة المدنية، وغيرها من الضمان الاجتماعي للفرد في كندا، غير أن هذا المسار الاقتصادي يقوم على تكريس طبقي رأسمالي تعيشه أميركا الشمالية، وبالذات لارتباط كندا العضوي بالولايات المتحدة الأميركية، بمعنى أن مثل هذه الاختراقات، ودورات الفساد والبرجوازية المقننة، موجودة لدى المحافظين، كما هو في الحزب الليبرالي الذي يعتقد بعضهم أن رأسماليي الحزب لم يكونوا مع القوة النضالية التي ساندت خطة ترودو القومية، بقدر ما أنهم رؤوس أموال تستثمر في السياسة، وأن القوة العميقة التي تدير مصالحها في كندا لا فرق بينها في الحزبين المحافظ أو الليبرالي، وهنا تبدأ حكاية ترودو الجديد.
صعد الشاب ترودو بناءً على هيمنة شرسة من المحافظين، بعد حكم أبيه، شكّل حضوره تجديداً شبابياً وخطاباً حيوياً مميزاً، ألهم القاعدة الشبابية في كندا بروحٍ حيويةٍ تجمع الشرائح الاجتماعية، وتعلن رابطةً تعيد تطبيق مفاهيم القيم الكندية التي عصرتها التجارب ودوّنها الدستور مع وثيقة الحريات، والمحور كان دائماً كرامة الفرد.
صحيح أن هذه القيم قديمة، وكان والده أحد معزّزي مسيرتها، وأن بنية النظام الحقوقي حتى في عهد المحافظين، حمت المكتسبات الحقوقية والقانونية، لكن غياب روح القانون التضامني، وحتى الإجراءات العقابية، والاستهداف التمييزي العنصري بين شرائح المجتمع الكندي، أو السكان الأصليين، كانت مساحته تتوسّع أمام صعود القطبية اليمينية.
كان تجسيد جاستن ترودو البلاغ الوطني العام لكندا الجديدة أن شعبها هو موزاييك من كل الأمم، وأن خطيئة الرجل الأبيض التاريخية ضد السكان الأصليين في أميركا الشمالية، يجب أن تتحوّل إلى ميثاق وطني اجتماعي عملي، لا نصوص مجمدة، رسالة حشدت عليها الأقليات، وأنصار صوت الضمير الكندي، في القومية الغربية البيضاء. هنا شارك المسلمون حينها مع اليهود والسيخ والأقليات الأخرى في رحلة إسقاط العهد المحافظ ومسطرته العنصرية المتزايدة، والتي تعود اليوم من جديد.
وبات ترودو من دون أي تأثير انتخابي مفصلي لصوت المسلمين، ليس لأنهم ليسوا كتلةً مؤثرة، ولكن لواقع تفرّق حركة تصويتهم، واختراق اليمين لهم بأبسط الوسائل، وغياب الاستراتيجية الفكرية التي تقوم عليها المعاجلة السياسية. وبالتالي، لم يكن ترودو محتاجاً، لولا قناعته الخاصة التي أعلنها، من دون أي زعيم غربي، وكرّرها بأن هناك معاناة واضطهاد 
يتعرّض لهما المسلمون خصوصاً، وأنه ملتزم لمواطنيه برعايتهم وتقديم الدعم للمتضرّرين منهم، بحسب إمكانية كندا، فكان ترودو حاضراً من سلة بوابة الاستقبال في المطار للاجئين المسلمين وغيرهم، حتى توزيع سلة رمضان وتهانيه الدورية، ومواساته والحرص على قربه منهم في كل حادثة أو جريمة يتبناها اليمين المسلح العنصري، داخل كندا وخارجها. وهذا لا يعني أنه مقياسٌ يُحدّد صوت المواطن الكندي المسلم، بدلاً من تعزيز حقوق الشعب ورفاهه، ولكنه رعاية وجدانية لا يُستهان بها أمام صلف الصعود اليميني.
الأزمة الضميرية اليوم أن الوزيرة المستقيلة جودي ويلسون - رايبولد تتحدر من رحلة السكان الأصليين، ووجه أبيها بيل ويلسون مشرق بكفاح عذاباتهم، وكانت من رفاق ترودو الذي اتحد معها في تكريس هذه الرحلة الحقوقية. والموقف الأوّلي من رفض الوزيرة أي تساهل قانوني، والمتفق مع ضميرها الوطني وعهدها الحقوقي، هو الإشادة الكبيرة بروحها ونزاهتها.
كان الأمل أن تستمر الرحلة بين الشريكين، في سبيل كندا الموزاييك الوطني الإنساني، وهو ما يُتعقب عليه، ولماذا لا ينتصر المحافظون، ولماذا نعتبر أن عهد ترودو مميزاً؟ الحقيقة الكبرى بعيداً عن جدل الصراع السياسي، بما فيه أخطاء الليبراليين المركزية، أن صوت الشعب، وصوت الضمير الكندي، هو الحكم الحاسم، غير ما ندركه اليوم أن ترس المحافظين لا يُرى في قبضته النور الذي يؤمّله ضمير جودي ويلسون وأجدادها العظام، بقدر ما أن سقوط ترودو مقدمة لخنق الضمير الاجتماعي الحقوقي، وضم كندا إلى الظاهرة الترامبية المناهضة لكرامة الإنسان.

دلالات