الكوميديان رئيسا منتخبا

الكوميديان رئيسا منتخبا

28 مايو 2019

زيلينسكي لدى تنصيبه في البرلمان رئيساً لأوكرانيا (20/5/2019/Getty)

+ الخط -
ليس جديداً أن يصل أشخاصٌ ضعيفو الصلة بالسياسة، أو لا صلة لهم بتياراتٍ أو أحزابٍ أو قوىً فيها، إلى المنصب الأعلى في الدولة، رئاستها، بالانتخاب المباشر. حدث هذا في غير بلدٍ يأخذ بالتنافس في انتخابات ديمقراطية. ويحدث الآن في الولايات المتحدة، وإنْ قرأنا أن المتموّل ورجل الأعمال، دونالد ترامب، مرّ طوْرا قليلا في الحزب الديمقراطي قبل أن يُصبح جمهوريا. أما الممثل رونالد ريغان، الرئيس لاحقا، فقد كان حاكم ولاية كاليفورنيا، بعد أن ترأس نقابة الممثلين. الأمر مختلفٌ جدا بخصوص رئيس أوكرانيا الجديد، فولوديمير زيلينسكي، الذي تجاوز، في المرحلة الأولى للانتخابات الرئاسية في بلاده، 42 مرشحا، قبل أن يظفر بنحو 73% من أصوات المقترعين، فيصبح رئيسا، وهو الذي لم يُؤخذ أمرُه بجدّية، لمّا تقدّم بأوراق ترشحه في ديسمبر/ أيلول الماضي. وحتى لو صحّ إنه دميةٌ لمتنفذٍ مليارديرٍ أوكرانيٍّ إسرائيلي، فذلك لا يعني شيئا أمام نجاحه بأصوات الناخبين، والذين كان عدمُ التوجه إليهم بوعود عنوانَ برنامجه الانتخابي، فلا تستجدّ خيباتُ أملٍ تاليا، وإن تعهّد أحيانا بإعادة شبه جزيرة القرم التي ضمّها الرئيس بوتين إلى روسيا.
مبعث العجب في حالة زيلينسكي (41 عاما) أنه ممثلٌ كوميدي فحسب. كتب عارفون إنه شعبويٌّ في عروضه الفكاهية الناقدة للسلطة. ويجوز حسبان هذا بأنه غير مقنعٍ تماما إذا سيق انتقادا للرجل، فالإضحاك في عروضٍ تجارية، وفي برامج ومسلسلات تلفزيونية، عملٌ شعبي تماما، وإذا أصبح من يؤدّيه شعبويا فذلك غالبا ما يعكس مفارقةً في الحالة العامة في البلاد، أكثر منه متعلّقا بمن يتوسّل هذا الأمر. والمرجّح أنه صحيحٌ ذهاب عارفين إلى أن نقمة شعب أوكرانيا من السياسيين في بلده، ممن هم قدّامه منذ سنوات، وأخفقوا في حل مشكلاتٍ ملحّة، هي سبب النجاح الكبير الذي أحرزه الكوميديان الشاب في انتخابات الرئاسة، وقد قال لوكالة أنباء إنه فعلا بلا خبرةٍ سياسيةٍ، ولكن لديه "ما يكفي من الطاقة والقوة"، وإنه لا يعرف كل شيءٍ عن السياسة، ولكنه "في طور التعلّم". هذا هو حال رئيس ثاني أكبر بلدٍ في أوروبا، وثاني أكبر قوةٍ عسكريةٍ في القارّة، ويقع في قلب الصراع الروسي والغرب الأورو أميركي.
كأن الكوميديان الأوكراني اضطر إلى تأسيس حزبٍ يتوسّل منه العبور إلى المنافسة الانتخابية، فاختار لهذا الحزب اسم مسلسله التلفزيوني الطريف "خادم الشعب"، والذي كان يشغل فيه دور أستاذٍ للتاريخ يصبح بالمصادفة رئيسا للدولة، فصحّ القول الذي شاع تاليا إن خبرة الرجل في السياسة مقصورةٌ على تشخيصه دور الرئيس في مسلسلٍ فكاهي، غير أنه ما إن أقسم اليمين، حتى أعفى أصحاب مناصب ثقيلةٍ وحساسةٍ (رئيس جهاز أمن الدولة ووزير الدفاع مثلا) في الدولة من مواقعهم، وطالب النواب بقانون انتخابي جديد، عليهم إنجازه في شهرين، ما جعل محلّلا يقول إن خادم الشعب، كما سمّى نفسه، حكم على نفسه بالفشل في أول يوم له رئيسا. وليس هذا الكلام محسوما، فالوقت مبكّر، وقد يفاجئ الكوميديان الذي احترف الإضحاك، وإسعاد الناس بالنكتة، شعبَه بما يسرّه من سياساتٍ وخياراتٍ وإجراءات.
صحّ إذن قول الفيلسوف بيرغسون (توفي في 1941) في كتابه عن الضحك (1911) إن للضحك وظيفةً اجتماعيةً، فقد زاول الفنان الأوكراني الكوميديا في انتقاد السياسة والسياسيين في بلاده، أمام جمهورٍ عريضٍ وعام. وعلى ما قرأنا فإنه موهوبٌ حقا، ما جعله ثريّا بعد نجاح شركة الأعمال الفنية التي أنشأها وخصّصها للكوميديا. لم يتوسّل الإضحاك الانتقادي لتعبئةٍ، أو لإشاعة وعيٍ أيديولوجي، وإنما أراد فعلا (أو نشاطا على الأصح) يتّسق مع مزاجٍ اجتماعيٍّ ساخط، توّاقٍ للبهجة، ملّ رتابة الحالة السياسية التقليدية. وهذه مناسبةٌ للإلحاح على التمييز، البديهي والمعلوم، بين أن تضحك من مشهدٍ أو موقفٍ أو قولٍ وتضحك على مشهدٍ أو موقفٍ أو قول. ثمّة رؤساء عرب يضحكونا من فرط تفاهة أدائهم، وهزلية المساخر المبتذلة التي يصنعونها ويفتعلونها. لا يثيرون أي سعادةٍ، وإنما يشعلون سخطا عليهم، وحزنا على أحوالنا، وهم بين ظهرانينا حكّاما وأصحاب سلطة. حال رئيس أوكرانيا غير هذا أبداً، أضحكَ أهل بلده بالفن ومسرح الكوميديا، فكرّموه بأن جعلوه رئيساً.

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.