ورشة البحرين وهذا الانحدار

ورشة البحرين وهذا الانحدار

27 مايو 2019
+ الخط -
لا أحد يعلمُ ما هي صفقة الرئيس الأميركي ترامب للشرق الأوسط، ولا لِمَ تأخذ هذه الصفة؛ "صفقة القرن" الذي نعيش. إلّا أنّ الواضح، وكما تثبت الأحداث المتسارعة، أنّ أصحابها الثلاثة المُكلّفين بصياغتها من ترامب (الصهاينة: كوشنير، غرينبلات، فريدمان)، لا يعرفون كيف ستكون صياغتها النهائية خطّيًا، فهُم أشبه بمن يكتب سيناريو لرواية من وحي الخيال، والراوي الرئيس الذي نعرفهُ؛ نتنياهو، لا يمنحهُم مجالًا لتحوير حكايته التي يُريد أن تُمثّل في مسلسل. فعلى الرغم من معرفةِ الفريق الثلاثي النتائج، وهي أساس الموضوع، إلّا أنهم يتعثّرون في التفاصيل وعناصر التشويق والحبكات، بالإضافة إلى أنّهم لا يجيدون فنون التسويق.
وعلى الرغم من الحديث الإعلامي أن الصفقة باتت جاهزة، إلّا أن واقع الحال يشي بغير ذلك، ما زال ينقُص كُتّاب السيناريو الثلاثة الخبرة الكافية، إذ إنّهم لم يوفّقوا في جعلِ الخطة ذات إثارة، بل ولِدت خطّتهم ميتة، نتيجةَ تمثيل الحلقات الأساسية في البداية، لا في النهاية، كما يجب أن تكون، فقد أُخرجت قضايا الحل النهائي خارجًا؛ القدس واللاجئين والمستوطنات والأغوار.
السياسة التي تتّبعها ترويكا ترامب بجعلِ الأمر يبدو غامضًا، بعد منح كيان الصهاينة كل ما يريد، هو ما يدلُّ على سخافةِ الخطّة، وقلّة قيمتها السياسية، ولكنّ ترويكا الصهاينة الثلاثة ما زالت تُصرُّ على عدم رؤية الحقيقة فلسطينيًا وعربيًا. وقد أصبح هذا الغموض لعبةً صبيانية، حتّى العبارة المُتفذلكة التي يُكررها هذا الفريق، مثل: "أنها ستكون مُختلفة عمّا طُرِحَ سابقًا" لم تعُد تُغري، بعد الخطوات الأميركية الانفرادية التي تحدّت القانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية. وعلى الرغم من الرفض العلني الجَليّ فلسطينيًا، إلا أنّهم ما زالوا يزعمون أنّهم يتناقشون في مجموعة أفكار خلّاقة/ إبداعية، تتجاوز الماضي التفاوضي بين الجانبين، لكنها،
 وهنا بيت القصيد، لن تستند إلى حل الدولتين. هكذا تتعاملُ إدارة ترامب مع أعقد قضية في التاريخ، بإلقاء بالوناتٍ إعلامية من منصة التواصل الاجتماعي تويتر، أو في مقابلات صحافية. لكنّ المُلاحظ أن كل ما صرّحَ به الثلاثي لا يُبشّر بحلٍ مقبول، فلسطينيًا أو عربيًا. ولذلك صمَّ الفلسطينيون آذانهم عن سماعِ أي شيء قادم من إدارة ترامب.
يشير التأخير والتأجيل المتكرّر إلى صعوبة صياغة مبادرةٍ يقبل بها اليمين الصهيوني في إسرائيل، على الرغم من أن هذا اليمين حصل على كل ما يريد قبل الإعلان، أي إسقاط قضايا الحل النهائي بالجملة، وهو جوهر الصراع. وفق ظنّي، ليس الرفض الفلسطيني هو المُعطّل لإعلانها على أهميته، والذي جاء رد فعل غاضبًا على خطوات إدارة ترامب، بل إنّ نتنياهو واليمين الصهيوني لا يُريدان منح الفلسطينيين أي كيان حقيقي على أرضهم، وكل ما يرغبونه إنهاء القضية، والحفاظ على الوضع الراهن مع تغيير المسميات فقط.
تتخبط الإدارة الأميركية، تُريد من عرب الخليج، ومن بعدهم البقية، تطبيع علاقاتهم رسميًا مع دولة الاحتلال. وبعض هؤلاء، على الرغم من إشاراتٍ قدّموها باستعدادهم لتلبية المطلوب، إلّا أن أحدًا منهم لن يجرؤ على تنفيذ الطلبات الأميركية من دون حل للقضية الفلسطينية. لذلك، من المتوقع أن يستمر الضغط على الفلسطيني، قيادةً وشعبًا وفصائل، أميركيًا وصهيونيًا وعربيًا، للموافقة على بيعِ حقوقه. وقد تصلُ تلك الضغوط إلى حدّ التجويع، وكذلك الأمر مع توأم فلسطين الأردن الذي تُمارس عليه الأساليب الدنيئة نفسها، وبعضها من أشقائه العرب. ويبدو أنّ مشكلات لبنان الاقتصادية لن تُحلّ إلا بقبول التوطين.
هناك مجموعة عُقد في منشار ترامب وفريقه، لا يمكن تجاوزها. ولذلك ستبقى هذه الإدارة تضع مواعيد للنشر ثم تلغيها. التأجيل المُستمر من دون وضع سقفٍ زمني محدّد برهانٌ على عُقمِ الخطّة، ومخالفتها أبسط قواعد السياسة. ولكن السّؤال الذي لطالما وجِّهَ لي: لماذا المطروح صفقة لا تسوية، كما كان يطرح كيسنجر ومن جاء بعده؟ ببساطة، لأنّ التسوية اتفاق سياسي يتضمن اللجوء إلى الدبلوماسية بديلًا عن الحرب، بالسعي إلى تحقيق اتفاق بحد أدنى، يُرضي أطراف النزاع. أما الصفقات فهي اتفاقيات تجارية تتم بين طرفين أو أكثر. وفي 
الصفقات، أغلب الأحيان يخسر الضعيف ويربح القوي. كذلك ما يُميز الصفقات التجارية في العالم الرأسمالي الغربي، أنها تتم دائمًا وفق مبدأ "سلعة مقابل مال"؛ أي أحدهم يشتري والآخر يبيع، حيث لا توجد إمكانية لتبادل السلع، كما في الاقتصاد الاشتراكي. وفي حالتنا، الشعب الفلسطيني هو مالك الأرض والحقوق، ولذلك مطلوب منه البيع. وفي حال وافق على البيع، وهذا ما يتصوّره الأعداء بعد هدنة "أوسلو" البائسة، التي تنازلَ فيها قادة فلسطين عن 78% من أرض فلسطين، مقابل إعلان مبادئ تمنّوا أن يُفضي الى دولةٍ على حدود عام 1967، لكن ذلك لم يحصل، والآن نعيش الحلقة الثانية منها، وجوهرها انتزاع ما تبقّى من أرضٍ وحقوق مقابل المال.
وفي مؤتمر المنامة، نهاية يونيو/ حزيران المقبل، يتصوّرون أنهم سيجمعون المال اللازم لإغراء الفلسطيني. وهذا المال بالطبعِ لن يكون من حسابات أميركية أو صهيونية يهودية، بل مالًا عربيًا من حسابات خليجية. وهذا ليس تخمينًا، بل مُعلن أميركيًا. وعليه ستُصبح معادلة الصفقة كالتالي: "العرب سيدفعون مالًا للفلسطينيين؛ ليحصل اليهود الصهاينة الغرباء، على مُقدسات وأرض أصحاب الأرض، من دون مقابل". وبذلك نكون أمام مهزلة العصر. هذا ما تُروّجه إدارة ترامب، السلام الاقتصادي من دون الحقوق السياسية، فالمبدأ الذي تقوم عليه الصفقة يتلخّص في دفع مال للفلسطينيين، مقابل التنازل عن حقوقهم في الأرضِ والعودة، والدولة وتقرير المصير.
وما الخطوات التي أقدمت عليها إدارة ترامب، بإخراج قضايا أساس الصراع من الحلِّ النهائي، عبر الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة للكيان، ونقل السفارة الأميركية إليها، إلّا جزء منها، وكذلك وقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وإسقاط حق العودة، وبقاء المستوطنات وتهويد الأرض والاعتراف بها أميركيًا، بالإضافة إلى فصل قطاع غزّة عن الضفة الغربية، والتطبيع العربي سرًا وعلانية.. كل هذه الإجراءات قائمة، وتسيرُ بوتيرةٍ سريعة، وأمام أنظارنا. وعلى الرغم من ذلك، يتحدث القادة الفلسطينيون بأن الصفقة لن تمر، بل أُسقطت بالفعل؟
يُثير التفاؤل الفلسطيني علامات استفهام؛ فما الذي سقطَ، في حين نرى الخطة غير المعلنة بالكامل قد طُبّقت بالفعل؟ فصفقة القرن قائمة، وتتدحرج إلى الأسوأ؛ إلى حلف عربي صهيوني، وإن تمّ فسيُصبح من ينادي بفلسطين عدوًا لهذا الحلف. والصفقة، خطةً مَصوغة في بيان للإعلان، أُجّلت حتى إشعار آخر رسميًا، ويمكن ألّا تُعلن، لكنها ومن دون إعلان طُبقت في خطوات منفردة، ومن جانب واحد أميركيًا. صحيح أن ذلك التطبيق العملي لم يُغيّر شيئًا في الواقع القائم منذ عقود، إلّا أنها قضتْ على فُرص التسوية بخروج الراعي الأساسي للعملية، والذي تنكّر للقانون الدولي ومعاييره وأحكامه. ويمثل هذا الوضع كارثة لعرب التسوية والاعتدال؛ لأنّه سيقود إلى فقدان الأمل. وبديل فقدان الأمل عودة العنف المسلح خيارًا أساسيًا في الصراع. كثرة التأجيلات تعني أنّ الفشل هو مصير الصفقة فلسطينيًا وعربيًا، هكذا يظنُّ أغلب المراقبين العرب، بل بعض الأوروبيين، العُقدة الفلسطينية في عدم الموافقة الرسمية من قيادة الشعب وفصائله، لا حلّ لها، لن يجدوا من يوافق عليها رسميًا، وهذا هو الأهم، فمن دون وجود بائع لا صفقة ستتم. وعليه، على الرغم من أن الخطة تُطبّق على الأرض، لا جديد في 
ذلك، فهو حاصل بفعل الاحتلال.
والمؤتمرات الاقتصادية لن تكون في مصلحة الشعب الفلسطيني، بل تستخدمُ اسمهم لتمرير عشرات مليارات الدولارات الخليجية والعالمية للمشاريع التكاملية الخليجية - المصرية مع دولة الاحتلال، تحت مسمّى السلام الاقتصادي والتنمية في المنطقة. وهو تطبيع علني، من دون حل النزاع الأصلي، وجوهره القضية الفلسطينية. ويعتقد متابعون أنّه لا صفقة هناك، فما هو معلن أميركيًا من بنودٍ قد تتضمنها، يَنسفها إذا كان الهدف قبولها فلسطينيًا، فالفلسطيني لا يجدُ ما يغريه بقبولها، فجوهر الصفقة لو أُعلنت سياسيًا، لما منحتهُ أكثر مما هو موجود في واقعه، وهو ما أعلنه غرينبلات وكوشنر: ما هو واقع سيبقى. إذًا روح الخطة هو الإبقاء على الوضع الراهن.
كبار رجال الأعمال الفلسطينيين، بمن فيهم من قالوا إنهم تلقوا دعوات إلى البحرين، وغيرهم ممن يُعتقد أنه سيُطلب منهم الحضور، رفضوا الحدث باعتباره مهينًا، ويؤدي إلى نتائج عكسية. وكذلك، المسؤولون الحكوميون الفلسطينيون، الذين لم تتم دعوتهم لحضور المؤتمر. في النتيجة، أُعلنت الصفقة أم لا، أُجِّلت أم لا؛ سيّان، لكونها ولِدت ميتة. وأولًا وأخيرًا، لا علاقة لها بفلسطين، بل بتطبيع خليجي صهيوني ليس إلّا. ولذلك الدول التي شاركت في مؤتمر وارسو ستشارك في ورشة المنامة. ودائمًا مشاركتها تتمُّ باسم دعم الشعب الفلسطيني، الذي لم يخوّل أحدًا بالتحدث باسمه. واقع عربي مرير وحكّام عروشهم لديهم أهمّ من مقدساتهم وأمنهم القومي، لا جديد سينبثق عن مؤتمر المنامة، سوى عار يُكلّل كل من يشارك في التنازل عن حقوق الأمّة، ويرهن مستقبلها لأعدائها.
77666EA5-3069-490C-A5BB-DA22F57426B4
77666EA5-3069-490C-A5BB-DA22F57426B4
علاء أبو عامر

أكاديمي وباحث ودبلوماسي وروائي فلسطيني، دكتوراه في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية

علاء أبو عامر