أوكسجين

أوكسجين

27 مايو 2019

(أسامة دياب)

+ الخط -
قالت المرأة الحائرة للمتخصصة المستشارة في العلاقات الزوجية وسبل نجاحها، والتي لجأت لها بعد أن فقدت الأمل تماماً: لم أعد أعرف كيف أتعامل معه، فقدت القدرة على التصرّف الصحيح، لأنه تحوّل، مع مرور الأيام، إلى شخصٍ آخر، رجل صامت كئيب متراجع، فاقد الشهية للحياة، نموذج مختلف كلياً عن زميلي الذكي اللماح المرح، المتدفق حيوية، الذي عشت وإياه قصة حب عاصفة، كانت مثار حسد الجميع، قبل أن تتكلّل بالزواج، واجهنا صعوباتٍ كثيرة ذللناها معاً بقوة الحب الذي ربط بين قلبينا. علاقة استثنائية لم تقف عند حد الانجذاب اللحظي، بل تحولت إلى صداقة عميقة برّرتها طباعنا التي بدت متقاربة متشابهة. اعتبر الأصدقاء والأهل علاقتنا تجسيداً لمعنى التناغم والانسجام بين المرأة والرجل، حالة مثالية من الحب والاحترام والرضا والتعلّق، لا تتوفر كثيراً في زمن العلاقات الإنسانية الواهنة سريعة التحلل والتلاشي.
أدركنا سر النجاح الكبير في البداية. وكان هدفنا الأكبر تكريس أسباب سعادتنا، والتغاضي عن المنغصات التي تعترض حياتنا بين حين وآخر شأن سائر الناس، لم يبخل عليّ يوماً بمشاعره الدافقة، وحنانه الذي فاض، في روحي إحساس بالأمان والفرح والامتنان "لحظي الذي فلق الصخر كما يقولون"، وجعل مني امرأة سعيدة متحقّقة مفعمة بالطاقة والأمل والحب. أحطت زوجي بالرعاية والاهتمام طوال الوقت، انتقيت ثيابه بعناية شديدة، صرت زبونة دائمة في محلات الملابس الرجالية، حرصاً على تطوير ذوقه المتواضع، وجهله الكبير في أحدث خطوط الموضة، وإخفاقه في اختيار الألوان التي تناسب لون بشرته. واجهت صعوبةً في إقناعه بضرورة تغيير موديل الأحذية التقليدية التي كان يفضلها. اقتنع أخيراً بوجاهة رأيي، عندما جرّب الأحذية الكتّانية الخفيفة، ذات الألوان الزاهية التي تضفي على مظهره حيوية وشباباً. وساهمت قصّة شعره التي اخترتها في تحويله إلى شاب مودرن، حتى إن الفتيات صرن يرمقنه بنظرات إعجابٍ، فيما نحن نتجوّل في المولات، ما أثار غيرتي قليلاً. صرت أتشبّث بذراعه، وألتصق به، كي يعرف الجميع أنه لي. كفّ عن التبرم من تمهلي طويلاً، قبل انتقاء أي قطعة ثيابٍ تخصّه، ليقينه أنني لن أختار له سوى الأفضل والأكثر أناقة وحداثة، ثقة مطلقة أبداها دائماً في ذوقي وحسي العالي في عالم الأناقة والأزياء. وافق، بعد تمنّع، على النظام الغذائي الخالي من الكربوهيدرات الذي فرضته عليه، بعد أن لاحظت بداية تكوّن كرش صغير، اصطحبته إلى مركز رياضي قريب من بيتنا، وشجعته على الالتزام بحصص رفع الأثقال، كي يقوي عضلاته، ويحصل على بطن منبسطة، تبرز فيها خطوط المعدة الستة مثل نجوم السينما والرياضة الشبان. وهو بالمناسبة لا يقل عنهم وسامة وجمالاً، وقد تعبت كثيراً قبل أن أثنيه عن عادة التدخين والسهر مطولاً، ولعب الورق في نهاية الأسبوع مع أصدقاء الطفولة الذين تخلصت منهم أخيراً، بعد أن بيّنت له أن قضاء كل ذلك الوقت بصحبتهم سوف يؤثر على طاقته، واقترحت عليه توسيع دائرة معارفه، وتوثيق علاقاته في العمل بما يفيد وظيفته.
لم يمض أكثر من ثلاثة أعوام على زواجنا. ولكن كل شيء تغيّر. أشتاق الآن إلى صوته وضحكته. ولا أجد أمامي سوى هذا الرجل الغريب الممل الكئيب. ساورني الشك في أنه يخونني، غير أني تأكدت أنه لا يفعل، بعد أن فتشت في موبايله وإيميله، لأني أعرف كلمة السر، ولم أجد شيئاً يستدعي القلق، ما طمأنني قليلاً، لكن حالته النفسية ما زالت إلى تدهور. لذلك اصطحبته إلى مكتبك، بناء على نصيحة صديقةٍ أشادت بقدرتك على صلاح الأمر بيننا.
ابتسمت المستشارة، وهي تتأمل ملامح المرأة التي تعبّر عن حزن ويأس. التفتُّ نحو الرجل الصامت قائلة: ما الذي لديك لتقوله رداً على زوجتك؟ تنهّد عميقاً ثم قال: لو سمحت، افتحي النافذة، أشعر بالاختناق.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.