ورطة تركية

ورطة تركية

22 مايو 2019
+ الخط -
يثير فشل تركيا في تحقيق أيّ من أهداف سياستها السورية خصوصاً، من بين قضايا أخرى عديدة، تساؤلاتٍ حقيقيةً عن كفاءة "الماكنة" السياسية التركية، وقدرتها على النهوض بأعباء (ومسؤوليات) القوة الإقليمية الكبرى التي تطمح إليها. وعلى الرغم من أنها الوحيدة من بين القوى الرئيسة التي تتصارع على الساحة السورية اليوم التي تملك حدوداً برية معها (نحو 900 كم تقريباً)، تجد تركيا نفسها الأقل قدرةً على حماية مصالحها، أو تحقيق أهدافها فيها. ففي حين تمكّنت كل من روسيا والولايات المتحدة، وحتى إيران، وجميعها تفصلها عن سورية الجغرافيا، ولا يربطها بها تاريخ، أن تحقق أكثر أهدافها أو بعضها، فشلت تركيا ليس فقط في تحويل سورية إلى سهم استراتيجي، كما كانت تطمح في بداية الأزمة، بل أيضاً في منع تحوّلها إلى منطلق لتهديد أمنها والإضرار بمصالحها.
منذ البداية، افتقدت تركيا استراتيجية واضحة للتعامل مع المسألة السورية، إذ غلب على مواقفها التردّد، وطغى عليها سوء الحسابات وفشل التقديرات. في بداية الأزمة، اعتمدت تركيا على موقف أميركي مساند، لكن الأميركيين خذلوها. ويذكر رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق، أحمد داود أوغلو، أنه توسّل إلى إدارة الرئيس أوباما تأجيل الطلب من الأسد التنحي 24 ساعة بانتظار نتائج زيارته (الأخيرة) إلى دمشق في أغسطس/ آب 2011، ليفاجأ بأن هذا كان سقف الموقف الأميركي الذي لم يتغيّر سنوات بعد ذلك.
في صيف 2014، فشل الأتراك في التعامل مع صعود تنظيم "داعش"، ومنعتهم حساباتهم "الضيقة" من لعب دور قيادي في التحالف الدولي الذي أنشأته الولايات المتحدة، ما جعل الأخيرة تعتمد على الأكراد في محاربة التنظيم، وأضاعت تركيا بذلك فرصة مهمة لتسخير الأجندة الأميركية في سورية، لخدمة مصالحها هناك. وعندما أدركت تركيا خطأها، وبدأت التعاون مع الأميركيين، جاء التدخل الروسي ليقطع الطريق عليها.
لم تفشل الاستخبارات التركية في توقع التدخل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015 فحسب، بل وقعت أيضاً بعدها في مصيدة الرئيس بوتين الذي استغلّ المحاولة الانقلابية في يوليو/ تموز 2016، لجرّ تركيا إلى عملية أستانة، مستعيناً بطُعم اسمه عملية درع الفرات، حيث وافقت روسيا على السماح لتركيا بالسيطرة على مثلث جرابلس - الباب - أعزاز، وفي المقابل، وافقت تركيا على اتفاقية خروج المعارضة من حلب في ديسمبر/ كانون الأول 2016، ولتكون هذه بداية نهايتها.
من خلال عملية أستانة، وما سميت مناطق خفض التصعيد، تمكّنت روسيا من تصفية مواقع المعارضة السورية، الواحد تلو الآخر، محوّلة إدلب إلى منطقة تجمعٍ أخيرة لكل مقاتليها، بإشراف تركيا، وتحت رعايتها. لكن إدلب نفسها التي ظن الأتراك أنهم عقدوا تفاهماً مع بوتين بشأنها أخذت تتحوّل أداة ضغط رئيسة على تركيا، وذلك أيضاً نتيجة خطأ حساباتها.
كرد فعل على الموقف الأميركي المساند للأكراد، وضعف الإدانة الأميركية للمحاولة الانقلابية الفاشلة، قرّرت تركيا أن تميل نحو روسيا، لكنها بالغت في ذلك، عندما اعتقدت أنها كلما اقتربت من موسكو اندفعت واشنطن نحوها أكثر، ووصل الأمر إلى حد إبرام صفقة لشراء منظومة صواريخ إس 400 الروسية التي ضربت لدى الأميركيين وتراً حسّاساً، فجاء رد فعلهم على شكل إجراءات اقتصادية، تمثلت في إنهاء المعاملة التفضيلية لتركيا في التعاملات التجارية، كما أوقفوا إجراءات تسليم طائرات إف 35 لها.
الرئيس الروسي الذي يعنيه تدهور العلاقات الأميركية – التركية، وصولاً إلى إخراج تركيا من حلف شمال الأطلسي، راح يستخدم إدلب أداة للضغط على تركيا، لمنعها من إلغاء أو حتى تأجيل صفقة صواريخ إس 400. وعليه، بدل أن تنجح في استخدام استراتيجية التأرجح بين العملاقين لانتزاع أكبر تنازلاتٍ ممكنة، حشرت تركيا نفسها بينهما، فلا عادت قادرةً على إلغاء صفقة الصواريخ خوفاً من أن ترفع روسيا بطاقة إدلب في وجهها، ولا عادت قادرةً على المضي فيها خوفاً من إجراءاتٍ أميركيةٍ إضافيةٍ، في ظروف هشاشةٍ يمرّ بها الاقتصاد التركي، علماً أن واشنطن تعرض عليها أيضاً تفاهماً شرق الفرات، إن هي ألغت صفقة الصواريخ الروسية، لكن هذا سيكلفها إدلب غرباً. كيف تخرج تركيا من هذه الورطة؟ سؤال يحاول "أساطين" الاستراتيجية الأتراك الإجابة عليه، من دون نتيجة واضحة.