الطيب تيزيني.. الفيلسوف الذي أبكته الدولة الأمنية

الطيب تيزيني.. الفيلسوف الذي أبكته الدولة الأمنية

21 مايو 2019
+ الخط -
شامخاً في عالم الفلسفة والسياسة. أينما جال في مدن البلاد المنكوبة، كان يطالب بحقوق الناس في الديموقراطية والتعدّدية وتداول السلطة. بكى في إطلالاته ولقاءاته التلفزيونية بكاءً مرّاً أحوال مدينته الأصلية حمص، وكل المدن السورية. حينما دعته اللجنة المكلفة من نائب رئيس الجمهورية، فاروق الشرع، في 10 يوليو/ تموز2011، قال في اللقاء إن اللجنة ذاتها كان يجب أن تتشكل من السلطة والمعارضة، وإيقاف النار وإطلاق سراح المعتقلين، والحوار الديموقراطي لا يكون إلا نديّاً. رفض نظريات السلطة بأن المؤامرة خلف ما يجري. رفض ذلك، وهو المفكر القومي. وقال، رداً على المؤامرة، إن هناك الداخل والخارج، وهي مقولته المحببة، ولولا ضعف الداخل، لما أمكن للخارج أن يجد أرضاً ومدخلاً للعبث. أصرَّ، في لقاءاته كافة، على أن ما حدث في سورية هو بسبب تراكم تاريخي، يمتد منذ سيطر العسكر على السلطة، وأزمات كبرى. طالب بتفكيك الدولة الأمنية في اللقاء التشاوري مع الشرع، مؤكداً أن تفكيكها هو حجر الزاوية في الحل؛ وحينها سيكون في مقدور سورية الخروج من الحطام المتراكم. الثورة فتحت حالة الحطام، ودعت النظام إلى أن يخرج منها، ولكنه أصرَّ على إغلاقها، والغرق بمستنقعها.
لم يغادر سورية، وهو القادر، وتابع مظاهراتها، وسال دمه واعتقل في اعتصام وزارة الداخلية في 17 مارس/ آذار2011. وعلى الرغم من هذا كله، كان عقله مفتوحاً لكل مبادرة داخلية وخارجية تتقصّد إيقاف القتل، وإنصاف الناس، والانتقال الديموقراطي. وحينما طلب منه وزير 
العدل السوري، حينذاك، أن يضع تصوراً عن كيفية الخروج من الوضع المعقد، شكّل مجموعات للنقاش الدقيق، وكتبوا تصوراً متكاملاً. ولكن الوزير ذاته، اتصل به، وقال لفيلسوفنا: "بل ميْتو واشربوا" أي أن خيار السلطة هو إغلاق كل منافذ الإصلاح والتحديث والتطوير، وأن خيار القمع والقتل والدمار هو الوحيد الذي تتبنّاه.
في حوارٍ مع قناة الميادين في 3 يوليو/ تموز2012، لم يبرّر الطيب تيزيني للنظام مرّة واحدة الخيار العسكري، ولم يندّد مرّة بالمعارضة والثورة. وعلى الرغم من محاولات المحاور إلى دفعه نحو ذلك، فقد أكّد، ورداً على رؤية القناة: لماذا لا تكون الممانعة والمقاومة مع الديموقراطية؟ لماذا تكونان ضدها؟ أهمية هذا الكلام، لأن مطلقه مفكر قومي ووطني بامتياز، ورجل لا يمكن التشكيك به. ولهذا كان تيزيني، وسيظل، يُسيط الجلد السميك للقوميين والوطنيين واليساريين والشيوعيين الذين وقفوا مع النظام، مع فرق كبير، أن تيزيني داخل سورية، وأغلبية تلك التيارات من خارج سورية، وهناك من هو في داخلها، ولكنها أيضاً عادت فيلسوفنا والثورة.
ليس الكلام هنا عن الرجل، وأن مؤسسة كونكورديا الفلسفية الألمانية الفرنسية اختارته عام 1998 ضمن المائة فيلسوف في العالم. وليس الكلام عن رفاقه الراحلين، كصادق جلال العظم وجورج طرابيشي. المؤسف في ذلك كله أن نتاجات هؤلاء وسواهم لم توضع ضمن المناهج الجامعية، ولم تقم الندوات عنها، وكأنّ كل هذه الجهود العظيمة لا شيء. يعترف العالم بقيمتهم الفلسفية، والبلاد التي أحبوها تهمّشهم، وترفض أي دورٍ حقيقي لهم في عالم الفلسفة.
الواقع العربي، بالنسبة لتيزيني، محكوم بقانون الاستبداد الرباعي، الاستبداد بالثروة والاستبداد بالإعلام والحزب المهيمن والاستئثار بالسلطة. وهذا القانون، يُراد به، سيما في سورية، إفساد من لم يفسد بعد، بحيث يصبح الجميع ملوثين ومدانين وتحت الطلب، وبذلك يصمت الجميع، ويصبحون آمنين وطائعين، كالدواب تماماً.
يتعجّب تيزيني، قائلاً "هل هناك من يقتل شعبه؟". طبعاً قيلت هذه العبارة في كل المدن السورية، وقيل إن من يقتل شعبه خائن. ومنذ تظاهر السوريون أمام السفارة الليبية، في العام 
2011، وهم يندّدون بمعمر القذافي حينها، وكان الكلام مضمراً للنظام السوري ذاته. في هذا يرى أن دمار سورية وقتلها يُفهمان عبر جدلية الموت والوجود، وهذه تفسّر لنا أن الثورة كانت تتقصد انتشال سورية من الحطام، وإدخالها عالم الوجود، ونقلها من التوحش والبيولوجيا إلى الإنسانية والسوسيولوجيا، أي إعادة الاعتراف بحقوق المجتمع وإقرار الحريات، ومشاركة الشعب في كل مناحي الحياة.
ربما كان المفكر الطيب تيزيني، مع سلامة كيلة، أكثر من رفض العولمة، وكرّر أنها تبتلع العالم، وتحولّه إلى سلعٍ، ولا قيمة للإنسان فيها إزاء الأشياء. وقد طرح سؤالاً مهماً، وما زال قائماً منذ ما قبل 2011 بسنوات طويلة: واجه النهضويون سؤال النهوض، لماذا نهض الغرب وتأخرنا نحن، بينما سؤال العرب، بعد التسعينيات خصوصا، هو كيف نستطيع الحفاظ على هويتنا في وجه نظام العولمة الإمبريالي، والذي يسعى إلى ابتلاع العالم؟ في التصدي لهذا السؤال، أجاب بأن ذلك يتحقق بشروط متعددة، أهمها ضرورة المراجعة النقدية الدقيقة لفكرنا العربي، واعتماد الديموقراطية والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وحرية المنابر والثقافة. وفي الاقتصاد، لا بد من إعادة توزيع الثروة، وطرح سؤال: من أين لك هذا؟ ويؤكد على أهمية تعميم الفكر التنويري في مواجهة الفكر الظلامي، ولم يتخلَ أبداً عن قضية رفض التطبيع مع إسرائيل، وطالب بتطبيع عربي عربي. هذه مفاتيح إشراك الشعب في التاريخ، وليس في السياسة فقط، ولكنها تتطلب بالتأكيد تفكيك الدولة الأمنية، ولهذا هُمِشَ تيزيني وكل مفكري سورية.
سأله أحد الأشخاص، ولماذا لا تكتب كل شيء؟ فأجاب: وهل تجرؤ على ذلك أنت؟ نعم، لا حصانة لأحد في بلادٍ لا حقوق فيها، والأنكى أن ما خاف منه، وهو تدمير بقايا الهوية الوطنية العائدة إلى ما قبل الستينيات، والخوف من تسييس الطوائف، يتحقق بهذا القدر أو ذاك، وربما هو أحد السيناريوهات الموضوعة على طاولة الدول المتدخلة في سورية، وبذلك تصبح سورية كالعراق ولبنان، ونلج الدائرة الحطام المقفلة.
في كل الأحوال، نخشى أن تضيع نتاجات طيب تيزيني، كما هُمشت وهُمش هو في حياته؛ خشيتنا هذه لأن أنظمة الموت تعادي الثقافة والحرية والوعي النقدي. أيضاً، الثقافة لا تحيا خارج الحرية، ولا تتحول إلى حقوق للأفراد إلا حينما تتشكل دولة القانون. هذا ما ابتغاه طيب السيرة، طيب تيزيني، وهو ذاته ما سعى إليه السوريون في العام 2011.