يحيى يخلف.. تكريمٌ مُستحَق

يحيى يخلف.. تكريمٌ مُستحَق

03 مايو 2019
+ الخط -
يُواظب المجلس الأعلى للثقافة في مصر على عقده "الملتقى الدولي للرواية العربية" منذ عشرين عاما، ويستضيف عددا كبيرا من كتاب الرواية العرب، ونقادها (بعضهم أجانب)، ليتداولوا في قضاياها. ويُختتم بإعلان نيْل روائي غير مصري، ثم مصري في الدورة التالية، جائزة القاهرة للرواية العربية. وممن استحقّوها عبد الرحمن منيف وصنع الله إبراهيم والطيب صالح وإدوار الخراط. وفي دورة الملتقى السابعة التي سمّيت دورة الطيب صالح، وانتظمت قبل أيام، وشارك فيها 250 روائيا وناقدا، تم تكريم الروائي الفلسطيني، يحيى يخلف، بمنح الجائزة له، بعد أن اختارته لها لجنة تحكيمٍ عربيةٍ (برئاسة محمد سلماوي وعضوية نبيل سليمان وإبراهيم السعافين وسعيد يقطين و...). وبعيدا عن "المهرجانية" التي تسبّب بها حضور العدد الكبير من المشاركين، وأصاب بعضٌ منها الملتقى الذي يعدّ الأضخم عربيا بشأن الرواية، وبعيدا عن خفّةٍ واستعجالٍ طالعْنا أنهما كانا بادييْن في بعض الأوراق، تبقى لهذه التظاهرة أهميتُها المقدّرة، إذ تُيسِّر جمعا عريضا، في مصر، لكثيرين من كتّاب الرواية العربية الراهنة، من مختلف الحساسيات الإبداعية، ومناسبةً لمقاربة موضوعاتٍ تتعلق بهذا الجنس الأدبي الذي صار يعرِف "وَرَما"، بتعبير الناقد فيصل دراج في مشاركته في الملتقى نفسه. 
أما تكريم يحيى يخلف (75 عاما) بالجائزة الرفيعة، وهو تكريمٌ مستحقٌّ بداهةً، فمناسبةٌ متجدّدةٌ للانتباه إلى ما ساهم به هذا الكاتب المخضرم، والفاعل في الحالة الثقافية الفلسطينية، في المدوّنة الروائية الفلسطينية، وهو الذي ينتسب إلى الجيل التالي لإميل حبيبي وغسّان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا. ويعدّ نتاجُه منذ روايته الأولى "نجران تحت الصفر" (1977) إلى روايته الحادية عشرة "اليد الدافئة" (2018)، اندفاعةً مهمةً في مسار الرواية الفلسطينية، بعد أن أقلع فيه ذلك العنقود الثلاثي، وهو مسارٌ تنوّعت فيه موضوعات الحكاية الفلسطينية التي اعتنى بها يحيى يخلف، ومجايلوه واللاحقون على جيله، معطوفا هذا الأمر، طبعا، على تعدّد الاختيارات الأسلوبية والخيارات الجمالية في بناء النصوص وعُمرانها، والتي حقق فيها كتّابٌ، عتاقى وجددٌ وبيْن بيْن، تحليقا نوعيا، وتجاوزا وتجديدا مؤكّدين. ولذلك الحاجة ملحةٌ لأن يجدَّ الدرسُ النقديُّ في تعيين الإبداعيّ اللافت من التقليدي والمتعجّل في الذي راكمَه مسار الرواية الفلسطينية. والقول هنا إن إسهام يحيى يخلف في هذا المسار كان مهما وخاصا، وهو الكاتب الذي ظلّ وفيا، في مرحلةٍ غير قصيرة، للرواية القصيرة، الشديدة الكثافة، ثم مال نوعا ما إلى النص الأوسع، وقد جاء إلى الرواية بعد كتابته القصة القصيرة (صدرت مجموعته "المهرة" في 1973).
وإلى هذا الأمر، ظلّ كاتبُنا مهجوسا بتنويع فضاءات أعماله مكانيا وزمانيا، في فلسطين كلها تقريبا، وفي بلاد اللجوء المجاورة، وفي شتاتٍ أعرض أيضا. وإذ هيمنت الموضوعة الفلسطينية، الشقاء والكفاح والنكبة والنكسة والنضال والثورة و..، على أغلب أعماله، إلا أنها حافظت، في الوقت نفسِه، على الاحتفاء بالحياة، وبالحب، وبالجمال، وعلى الانتسابِ إلى الأفق الإنساني. وفي البال أن أولى رواياته "نجران تحت الصفر" كانت عملا عربيا مبكّرا في إدانة تخلف أفكار التشدّد الديني، القامعة، والمعادية لقيم الحرية والعدالة، وقد كتبها من وحي اغترابه في مدينة نجران السعودية الحدودية مع اليمن. فيما جديدُه "اليد الدافئة" عن الإخلاص للحياة، وتُحسب رواية حب، من خلال رفض تقاعد الإنسان عن مكابدة الحياة ومغالبتها. أما أعمالُه بين الروايتين، فقد أتقن يحيى يخلف، في كثيرٍ منها، مزاوجةَ المتخيل بالواقعي، والغرائبي بالمعيش، وارتحل من اللحظة الحاضرة إلى ماضٍ غير بعيد، إلى آخر أيام جيش الإنقاذ في شمال فلسطين في حرب 1948 في "بحيرة خلف الريح" (1993)، وكذا إلى ماض أبعد في يافا في القرن الثامن عشر في "راكب الريح" (2015). وإلى ما بين النكبة والنكسة في "ماء السماء" (2008).. إلى أزمنةٍ وأمكنةٍ أخرى غزيرة، جال فيها يحيى يخلف بقلم مجرّبٍ في الحكاية والقص والسرد، في بناء الإيحاءات والمغازي والمعاني، وبجاذبيةٍ وليونةٍ ظاهرتيْن في نصوصٍ غير قليلة.. وبذلك كله وغيره، استحقّ التكريم العربي المصري أخيرا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.