"عندما تشيخ الذئاب".. خيبة أمل

"عندما تشيخ الذئاب".. خيبة أمل

20 مايو 2019
+ الخط -
بعد متابعة عدد كافٍ من حلقات مسلسل "عندما تشيخ الذئاب"، المأخوذ عن رواية تحمل العنوان نفسه للكاتب الأردني الراحل جمال ناجي، (إخراج عامر فهد، سيناريو وحوار حازم سليمان)، يمكن القول إن ملامح العمل الدرامي باتت واضحة ومخيبة للأمل ومخالفة للتوقع الذي كان عالياً، استناداً إلى أهمية هذه الرواية المختلفة التي تحبس الأنفاس تشويقاً، وقد اعتمد جمال أسلوبا روائيا رشيقا مدهشا مبتعدا عن رتابة السرد التقليدي، مستخدما تقنية الأصوات المتعدّدة، ولم يسمح لنفسه من موقع السارد العليم التعدّي على حقوق الشخصيات المتناقضة المتصارعة في التعبير عن ذواتها، بوحا واعترافا، وتطهرا أحيانا، فأطلق الفضاء الروائي، وحرّر النص من الرتابة والجمود وقيود الزمان والمكان، والموعظة والأمثولة والموقف الشخصي. خلط الأوراق جميعها، فتدفقت عناصر الحكي بيسر وعفوية، وقد سردت الشخصيات الستّ الرئيسية الحكاية عبر شهاداتٍ، كانت كلٌّ منها عنوان فصل في الرواية. 
قدّم جمال ناجي العاصمة عمّان مكانا حاضنا للرواية التي بدأت في أحد أحيائها الشرقية الفقيرة، جبل الجوفة (وطلوع المصدار)، ورصد التحولات الكبرى التي عصفت بالمنطقة وأثرها على الشخصيات، وهي تنطلق باتجاه عمّان الغربية، حيث فرص الثراء والصعود الاجتماعي والمناصب السياسية. تفاصيل كثيرة مدهشة في هذا العمل الروائي، العميق الفذ الذي وصل إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2010، وكان جديرا بالجائزة، لولا اعتبارات ليس لها أي علاقة بالمستوى الفني.
من هنا، يغدو الغضب مشروعا إزاء ما تعرّضت له الرواية في المسلسل، من تقزيم واجتزاء وتشويه. ولا أظن أن أحدا من محبي جمال ناجي وأعماله سيكون سعيدا باجتهادات كاتب السيناريو الذي سمح لنفسه، وبجرّة قلم طائش، شطب مدينة عمّان، حاضنة العمل. وقد أولاها جمال اعتناء وحرصا كثيرين على إبراز الجماليات والنقائض والفصام والخصوصية التي تميزها عن سائر المدن. وبقدرة قادر، انتقلت الأحداث إلى قلب دمشق، ما أفقد العمل أهم عناصره، وبدا التركيز واضحا على الفكرة الأكثر استهلاكا، لكي لا نقول ابتذالا، في الدراما، وهي التطرف والإرهاب، باعتباره الشر الذي نبت في بلادنا شيطانيا من دون رعاية رسمية (!)، مع الإصرار على تلميع النظام العادل الحكيم وتبرئته، وهو الذي يمثل الخير المطلق في الصراع بين الماركسيين والمتطرفين، ويبرز بينهما دور رجل الدين الوسطي، يلعب دوره سلوم حداد، حيث يجرّده السيناريو من أي صفة إنسانية، انتهازيّا بلا مبادئ، يستخدم سلطة الدين، ويوظف النص المقدس خدمة لمصالحه الشخصية.
يتجاهل السيناريو أن الروائي الراحل يدين في العمل الأنظمة أولا من خلال عرض مظاهر الازدواجية والفساد، وهو يرصد بعمق التحولات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالمنطقة، وامتد أثرها على الوطن العربي عقب الغزو الصدامي للكويت الذي مهّد لسقوط بغداد. أسقط كاتب السيناريو كل التفاصيل المهمة التي أعطت للرواية وزنها وأهميتها، ورضخ لاعتبارات إنتاجية متعلقة بأوكازيون رمضان الدرامي. وفوّت على نفسه، وعلى المشاهد، فرصة استثمار عمل روائي استثنائي، جرى اغتياله بسيناريو وحوار ممل ركيك، لا يرتقي إلى حرارة النص الأصلي المجني عليه، وكذلك إخراج بدائي محدود الخيال، يفتقر إلى أي قدراتٍ إبداعيةٍ وظروف إنتاج فقير متقشّف، غير قادر على إنتاج الإيهام الضروري في العمل الفني، وتقنيات تصوير نمطية بطيئة، ما يذكّرك بدراما السبعينيات. وكادر من الممثلين الضجرين غير المقنعين، رغم نجوميتهم. عابد فهد في شخصية جبران تعريف لخيبة الأمل، وهو الممثل المتمكن في العادة من أدواته. سمر سامي لم تقدم أي جديد، على الرغم من المساحة الكبيرة لدورها في شخصية الجليلة. وينطبق الأمر على سلوم حداد، الموكلة له شخصية عبد الحميد الجنزير، الأساسية المحورية.
بكل المقاييس، المسلسل المؤسف ضعيف، غير متماسك، منذ كلمات أغنية الشارة، الساذجة المباشرة السطحية. رحم الله جمال ناجي، وقد جنّبه الموت مواجهة الاعتداء الغاشم على روايته المهمة. وكذلك الاستخفاف السافر بذائقتنا الجمالية المهدورة على مذبح متطلبات المرحلة.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.