الأدرعيّون العرب

الأدرعيّون العرب

19 مايو 2019
+ الخط -
كنت ساذجًا حين اعتقدت أن للجيش الإسرائيلي ناطقًا أوحد ووحيدًا بلسانه، هو أفيخاي أدرعي لا غير، بيد أن العدوان الصهيوني أخيراً على غزة برهن أن لهذا الجيش مئات "الأدرعيين"، لا من جنرالاته، بل ممن يفترض أنهم "خصومه" من فلسطينيين وعرب، مع تحفظي على مصطلح (خصوم) في هذا المقام؛ لأنه يتناقض وعلاقة السمن والعسل السائدة هذه الأيام بين الكيان الصهيوني وعواصم عربية.
الواقع أنني لم أكن آخذ "همبكات" أدرعي وتصريحاته على محمل الجدّ قبل اليوم، فقد كنت على قناعةٍ بأن دوره محصور بمخاطبة فئات ضحلة التفكير، قابلة لتصديق الأكاذيب، بحكم عفويتها المفرطة، ومستعدة للتكيف مع ظروف "الأمر الواقع"، والقبول بالهزيمة، وبالكيان الصهيوني منتصرًا وسيدًا، من حقه أن يملي شروطه التي يشاء. ولكن مع تغليف هذه الشروط بأوراق سيلوفان براقة، يأتي بعضها على لسان أفيخاي أدرعي وحركاته الأكروباتية، كأن يشارك جنودًا صهاينة "مسلمين" مائدة إفطار رمضاني، أو يحمل مسبحةً إسلاميةً خلال تصريحاته، فضلًا عن اقتباساته واستشهاداته الدائمة من القرآن والسنة والتراث العربي، لخدمة فكرته التي يريد حشوها في أذهان بعض البسطاء المخدوعين بذرابة لسانه.
في سائر تصريحاته "السلمية"، أعني في غير أوان الحروب والاشتباكات والتهديدات، يُبدي الجنرال من الوداعة ما تعجز عنه الحملان في أوج تمطّيها. أما في المقامات النقيضة، على غرار العدوان على غزة أخيراً، فتجيء التصريحات مغايرة تمامًا، فيرتدي فرو الذئاب، ويكشّر عن الأنياب، لتنقلب الصورة تمامًا، حين يظهر الوجه الصهيوني الحاقد الذي يُحمّل الطرف الآخر مسؤولية إشعال نار الحرب، مؤكدًا أن على هذا الطرف أن يتحمّل نتائج فعلته الوخيمة. وبالطبع، ستكون النتائج المقصودة أضعافا مضاعفة، مقارنة بـ"الذنب" الأصلي الذي قد لا يتعدّى أحيانًا رصاصة طائشة، وتشمل النتائج، بالطبع، المدنيين، أيضًا، على اعتبار أنهم من يحتضنون "الإرهابيين" من حركة حماس وغيرها من الفصائل، حتى الفتحاوية منها التي تتحالف سلطتها مع العدو، ففي عرف الصهاينة "كل من يحمل البندقية في وجه إسرائيل إرهابي"، و"كل من لا يخضع لإرادة إسرائيل ومقارباتها إرهابي"، بل "كل من يرفض التطبيع معها إرهابي".
بالعودة إلى مقام "السذاجة"، اكتشفت في العدوان الأخير، تطابقًا غريبًا بين تصريحات أدرعي التي حمّل فيها، كعادته، "حماس" مسؤولية إثارة "غضب إسرائيل" وقتلها وتدميرها أهالي القطاع ومبانيه السكنية، و"أدرعيّين" عرب، منهم أدباء فلسطينيون، ذهبوا إلى ما ذهب إليه أدرعي ومنطقه في تحميل الضحية مسؤولية استفزاز الجلاد، وخروجه عن طوره، ومنهم من اتهم "حماس" بإساءة تقدير رد الفعل الإسرائيلي، وكأن ردود أفعال الإسرائيلي الوحشية كانت، طوال عمره القصير، رهنًا بأفعال الفلسطينيين و"تحرّشاتهم". وهم بهذا لا يتبنون الرواية "الأدرعية" فحسب، بل رواية حلفاء إسرائيل، ومسوّغي جرائمها ومذابحها من واشنطن إلى عواصم النفاق الغربي في باريس وبرلين، وكذا في عواصم النفاق الشرقي التي لم تعد تخجل، هي الأخرى، في تبرير جرائم إسرائيل، ووصف حماس بـ"الإرهاب"، كما تفعل الرياض وأبوظبي.
وفي مقام المراجعات، لا نخجل من إبداء عشرات التحفظات على طريقة إدارة "حماس" قطاع غزة وملفاته الداخلية. أما في ملف مقارعة الاحتلال الذي لا يحتمل أنصاف المواقف وثرثرات "الأدرعيين" العرب، فلا يُعيبنا أن نعلن التحامنا التام مع موقف "حماس" وأخواتها من منظمات فلسطينية لم تنحِّ خيار السلاح جانبًا، وما تزال ترفض الإذعان لقفص الضحية التي يريدون حشرها فيه لتقبل بسائر شروط الاحتلال وإملاءاته.
عمومًا، لا أستبعد أن تستفحل المدرسة "الأدرعية" وتتضخم في أوساط فلسطينية وعربية متعدّدة، ما دامت قد وصلت إلى صفوف مثقفين وأدباء يبدو أنهم أصيبوا بداء "الضحالة" السياسية، ويتعيّن ألا نعجب إن رأيناهم عما قريب، يشاطرون أفيخاي أدرعي طعام إفطاره الرمضاني المقبل، تمامًا عند موعد إطلاق "مدافع رمضان" الصهيونية على غزة.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.