عندما يختلط حابِلُ الأزمة الاجتماعية بنابِلِها

عندما يختلط حابِلُ الأزمة الاجتماعية بنابِلِها

16 مايو 2019
+ الخط -
مسؤولون سياسيون في لبنان هم أشبه بقطاع الطرق: مرغَمون على إضفاء شيءٍ من "المصداقية" على ميزانية، هي الشرط اللازم لتمويل دولتهم المقبلة على إفلاس، هم مرتكبوه، فكانت الجهة الأقرب إلى تناولهم فئة الموظفين والعمال الحكوميين، وقد مدّوا أياديهم إلى رواتب هؤلاء، إيمانا منهم بأن تخفيضها هو الحلّ. وهو حلٌ استثنوا أنفسهم منه طبعاً، نظراً لـ"ضيق حالهم"... ولكن العمال والموظفين يرفضونه؛ وشعارهم "ادفعوا أنتم الآن، ونحن ندفع لاحقاً"، لأن تخفيض رواتبهم يضيف ضيقاً على ضيقهم المتمادي، ولأنه يتجاهل مزاريب الهدر الرئيسية الساكنة في خزينة المسؤولين أنفسهم؛ وقد أشبعت فضيحةً على فضيحة، وعاراً على عار. ولم يَعد أحدٌ بحاجةٍ إلى تعدادها. هكذا، استنفر هؤلاء منذ أسبوعين، وخاضوا سلسلة من الإضرابات، كادت أن تجنّن البلاد: رعب حقيقي، دام أربعا وعشرين ساعة، غابت عنها الكهرباء والمياه والمدارس والدولار... فدبّ ذعرٌ آخر بين أركان السلطة، ودعا رئيسها، ميشال عون، قطبيها الآخرَين، أي رئيس الحكومة سعد الحريري، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، إلى لقاء ثلاثي في القصر الجمهوري، له غرَضان. الأول، كما قال: "وقف كل الكلام حول الإفلاس والانهيار، والذي يدفع إلى تخويف الناس وتوتير الأجواء في البلاد". والثاني، وهو الأهم: الاتفاق بين الأركان الثلاثة للجمهورية على الامتناع عن "تغطية" أي إضراب، أو أي تحرّك أو اعتصام تقوم به واحدة من هذه الفئات، وذلك في المجال الذي يخصّ كل رئيس: لا يغطّي رئيس الجمهورية العسكريين. ولا يغطّي رئيس الحكومة موظفي مصرف لبنان أو المصارف الخاصة. ولا يغطّي رئيس مجلس النواب النقابات العمالية والقطاعية.
وماذا يعني أن "يغطّي" أو لا يغطّي؟ يعني أن يترك، أو لا يترك، الفئة التي يتملّكها، التي تواليه، تحتج وتتظاهر، وتقول الكلام الفاضح بحق هذا أو ذاك من "الرؤساء" المتحاصِصين. وهذا سلوك "عادي" في لبنان، تشهد عليه التظاهرات المطلبية الصاخبة، والتي، مقابل 
"تغطيتها"، أو بكرمٍ سياسي منها، تقتصر شعاراتها الاحتجاجية ضد هذا أو ذاك من أصحاب الحصة في السلطة الحاكمة. لذلك كثرت حركتها من قلّة بركتها. وقد تكون هي السبب في الإخفاق بتكوين "كتلة شعبية ضاغطة"، يتحرّق المواطن الصالح لرؤيتها في الساحات.
لكن المهم الآن أنه، بعد هذا الاجتماع مباشرةً، التقى رئيس الجمهورية بوفدٍ من الاتحاد العمالي العام، برئاسة رئيسه، بشارة الأسمر، واتفقا على "تعليق" الإضراب: في المرفأ، والكهرباء، والمياه، والاتصالات، والنقل المشترك، والضمان الاجتماعي، والريجي.. إلخ. وأضاف "الرئيس" النقابي، بعد تراجعه عن الإضراب، أنه يأمل من الحكومة أن ترأف بالموظفين في أثناء مناقشتها الموازنة، من دون أن يصيبه أي يأس من بوادر تؤكد على عكسه، ولكن النقابي العريق هو تحت الوصاية، ولا يستطيع الخروج عمن "يغطّونه".
حتى هذه اللحظة، كان يمكن القول إن أهل السلطة اجتازوا امتحان الميزانية باطمئنان إلى ألاعيبهم، وإن الذين "يغطّونهم"، سوف يسكتون عن تمريرها بلا شقاء. وقفت الإضرابات يوما أو يومين، في سكونٍ اعتقد بعضهم بأن النظرية ركبت، وأن السلطة في وسعها، بفضل النقابات التي "تغطيها"، أن تنجز "مهمتها الوطنية"، بالغرف من جيوب الموظفين والعمال، ما يسدّ عجزها، أو بالأحرى يبيد فسادها الخرافي، وفشلها الأكثر خرافية.
ولكن لا: منذ يومين، عاودت الإضرابات والاعتصامات في القطاعات نفسها. العسكريون، وأساتذة الجامعات، والقضاة، وأساتذة التعليم الثانوي.. إلخ. وقد هددت هذه الفئة الأخيرة بتحرّكات تصعيدية "لا سقف محدَّداً لها". رئيس الاتحاد العمالي العام، بشارة الأسمر، وقع في حرج بالغ: كيف له أن يوائم بين التزامه مع رئيس الجمهورية بأن لا إضرابات بعد اليوم وتلبية جموح قاعدته الماضية في الإضراب؟ عاجز عن الاضطلاع بدوره قائدا نقابيا، يمثل مصالح الرجال والنساء الذين "انتخبوه"، فلا يجد شيئاً يفعله سوى رفع مذكرةٍ إلى الحكومة تتضمن الطلب بإلغاء مواد في مشروع الموازنة التي تصيب أجور العمال والموظفين. وإلا...! وإلا فسيكون "الاتحاد على موعد مع تحرّكات اعتراضية جديدة، تنطلق مع بداية الأسبوع 
المقبل". أي أنه يحاول أن "يربح الوقت"، برقصةٍ تراجعية، أربع خطوات إلى الوراء، بوعد أن يليها ربع خطوة إلى الأمام، ريثما تقرّ الميزانية، وساعتها "لا حول ولا قوة إلا بالله"...
ما الذي حصل لكي تنطلق الإضرابات على الرغم من "عدم التغطية"؟ حصل ما يشبه حياتنا السياسية: "القاعدة" النقابية أوصلت إلى قمتها ممثلين، على مبدأ المحاصصة العتيد: لك العمال، لي العسكر وله المصارف. هكذا سارت النقابات التمثيلية لمصالح الموظفين والعمال، على سكّة الانتخابات النيابية ذاتها. إذاً، ننتخب في النقابة ممثل هذه أو تلك من الأحزاب الحاكمة، ونرتاح. ولكن، بعد حين، هذه القاعدة تستيقظ على نفسها، وتجد أن الذين انتخبتهم لم يدافعوا عن مصالحها؛ بالضبط كما بعد الانتخابات النيابية. وفي موقعتنا بالذات، احتجت هذه القاعدة في جمعياتها العمومية، وصرخت بوجه قادتها ممثلي أحزاب السلطة بأنها لا! لن تقبل بوقف التحرّكات، فأرغمت القيادة على السير معها في تحرّكاتها (غياب المصارف عن هذه الجولة الثانية من الإضرابات، فسّره الخبثاء الضالعون في علم الفلك اللبناني بأن هذه الجولة إنما هي موجهة ضد رئيس الحكومة، المولج "تغطية" المصارف).
أي أن الصراع الأساسي لم يَعُد دائراً بين أهل السلطة والفئات الشعبية، إنما بين هذه الفئات في جمعياتها العمومية وممثليها أو قادتها المفترَضين. أي أنها عادت إلى أسسها الأولى، إلى القواعد التي انبنَت عليها هذه القيادة، إلى السؤال "الوجودي" عن معنى قيادةٍ كهذه. ولكنها لن تتجاوز سقوفها، فسوف يجد القادة النقابيون، مثلهم مثل القادة السياسيين، نافذةً يفلتون عبرها نحو تجديد قيادتهم الفاشلة؛ بمزيد من التراقص، ومن الحمايات والتغطيات الصغيرة، أو المتوسطة؛ بما سوف يفضي إلى عودة القاعدة إلى كنَبَتها، تلتهم سواد انخفاض راتبها، يواسِيها حضن الطائفة الدافئ المراوغ. هذا "خيار". أما الخيار الآخر، فأن تبدأ هذه القواعد بنفض تراب الأحزاب الطائفية الحاكمة عن تصوّراتها لـ"القيادة"، وألا ترفع إلى قمتها غير المدافعين عن حقوقها، لا حساب عندها لأي "غطاء"، فخلاف ذلك نقابات ميتة - حية، تنعشها من حين إلى آخر غيبوبة أخرى، قوامها الطوائف والفساد.