كيف تصنع الشيخ القرني؟

كيف تصنع الشيخ القرني؟

14 مايو 2019
+ الخط -
أثارت تصريحات الشيخ عائض القرني كثيرين من محبيه ومريديه، وجدوه يتراجع عن خطه الديني، ويعتذر عن التشدّد، ويتبنى دين الملك، من دون خجل من إعلان توجهه الجديد مقترنا باسم الملك الفعلي، أو ولي العهد بالتعريف الرسمي. هكذا ببساطة، نعتذر عن تشددنا، ونتبنّى ما يدعو إليه ولي العهد. المهتمون بالشأن الديني أغضبتهم أيضا تصريحات الشيخ، ليس لفجاجتها، ولا لاستهانتها بمصائر ملايين البشر الذين ضاعت حيواتهم سدى، وهم يحسبون أنهم يُحسنون فهما، ولكن لأن الشيخ تعمّد أن يزور التاريخ، وينسب التشدّد لظاهرة الصحوة، فيما كان التشدّد منتجا سياسيا مستقرا قبلها، تبرئة الصحوة هنا لا تعني بالضرورة براءتها المطلقة من إنتاج أفكار صبيانية وساذجة ومسيسة بدورها، إنما في هذا الموقف بالذات، كونها مسؤولة عما حاق بالسعودية ومحيطها الإقليمي الذي تعهدته بالتخريب الديني الممنهج، ثم أكملت عليه لاحقا بدعمها الثورات المضادة. 
وقف الشيخ يتأبط محمد بن سلمان، وابتسامة مفترسة على وجه الأخير تملأ "الكادر" لزوجةً، لا دخل للصحوة بكثافتها، وأطلق تصريحاته في وجه الجميع. وعلى غير العادة، تراجع التبرير، ليواجه الشيخَ طوفانٌ من الكتابات، تحليلات، دفوعٌ عن الصحوة، سباب، يستحقه، شماتةً، لا يستحقها أتباعه، وسحب كثيفة من الكآبة تظهر في تغريداتٍ آمن أصحابها يوما بالشيخ، وبغيره من شيوخ السلطان، وباعة الدين على أرصفة الحكام، وهؤلاء تحديدا من يستحقون الكتابة لهم وعنهم.
لا توجد صفحة في تاريخ الحكم الاستبدادي، وهو الغالب، على امتداد التاريخ الإنساني، إلا وحاول الحاكم أن يجمع ولاءات الكهنة والعساكر، في جعبته، بهم يحكم، وبه يسيطرون، السيف للمنافسين، والله للفقراء. وكما تصنع السلطة جيشها وشرطتها وقضاءها وفنانيها، تصنع شيوخها، بالآليات نفسها. بالأمس، كانوا يصنعونهم في الخفاء، ويحرّكونهم من وراء ستار. اليوم يخبرنا القرني، بوضوح، بأنه على دين ولي العهد، فيما يخبرنا خالد الجندي قبله بأنهم شيوخ سلطان، وقد أمرهم الله بذلك!
العلماء والشيوخ والقساوسة والوعاظ ظواهر دنيوية، البر منهم قبل الفاجر. لا يوجد شيء اسمه "خذوا دينكم عن فلان"، لا يوجد شيء اسمه "علقها في رقبة عالم واخرج منها سالم"، لا يوجد شيء اسمه "لحوم العلماء مسمومة"، لا يوجد شيء اسمه "العلماء ورثة الأنبياء"، كل هذه أساطير وأوهام مسيسّة صنعها شيوخٌ وساعدهم في نشرها حكام مثل ولي عهد ودين القرني ليسيطروا. العالِم شغلته المعرفة، لا الدين، التخصص الشرعي معناه التخصص في العلوم الإنسانية التي نشأت على تخوم الوحي، لا الوحي. كلها محاولات إنسانية، بشرية، دنيوية، زمنية، نسبية، لفهم الدين، وليست الدين نفسه، ولن تكون.
ليس العيب فيهم، العيب على من رآهم وهم يكذبون ألف مرة، وما زال يلتمس الأعذار لوجه الحاكم، وهو يحسب أنه يلتمسها لوجه الله، نصدّقهم لعلمهم، لصلواتهم، لدعائهم، لبكائهم؟، ذلك كله تمكن صناعته، تحويل الخطاب إلى منتج صناعة، تسليعه صناعة، اللعب على الصورة الذهنية صناعة، الإلحاح ودوام الحضور وأثره على نفسية المتلقي علم وصناعة، أقل من عامين يمكنك أن تحفظ خلاصات أفكار مدرسةٍ دينيةٍ بعينها، بعدها يلزمك "الإستايلست" الذي سيضعك في الخانة المناسبة لإمكاناتك، مجلببا ومعمما أم أفنديا ببدلة وكرافت، شاشة، وإعداد، وبرنامج خاص، واستضافات في برامج أخرى، وكثير من الجرأة على الإفتاء والتحدّث في كل شيء، بوستات وتغريدات وفيديوهات يوتيوب ومقاطع ساخنة، نارية، بعناوين من نوعية الشيخ فلان يمرمط ويفشخ ويمسح البلاط. صرت نجما، تَخدم وتُخدم، والنَّاس على دين فضائياتهم. القاعدة الأساسية هنا أنك لن تصير شيئا مذكورا على شاشات بلادنا من دون رضا الدولة، وتبنيها، سواء بالصناعة المباشرة أو بالسماح، كلهم هذا الرجل الذي يقدّم خدماته. أدرك ذلك، مثل القرني والجندي، أم لم يدركه مثل كثيرين من الخدم المتطوعين. بالأخير، الله في مكان آخر، فابحث بنفسك.