لبنان.. الأحزاب في مواجهة "جماهيرها"

لبنان.. الأحزاب في مواجهة "جماهيرها"

13 مايو 2019
+ الخط -
ليست مسألة تفصيلية ولا عادية، أن يخرج موظفو القطاع العام في لبنان، فيسدّوا الطرقات ويتمرّدوا على الزعامات، ويهدّدوا باستنساخ التجارب الربيعية التي عرفتها أقطار عربية عدة منذ عام 2011. وحين يقال إن المسألة ليست عادية، فلأن القطاع العام اللبناني متحزّب، تتشكل آلياته التوظيفية طبقاً لقواعد التحاصص الطائفي ـ المذهبي ـ الحزبي، فلا يدخل الوظيفة العامة إلا الحزبيون المحظيون بعوامل القوة من داخل الحلقات الضيقة والنافذة في الأحزاب ذاتها، أما المستضعفون الحزبيون، أو غير المتحزبين، فلا نصيب لهم من الوظائف العامة، ولا ممر ولا مدخل.
وإذ جرت العادة في أنظمة الحزب الواحد، أن يأخذ التوظيف في مؤسسات الدولة طابع الانتساب الحزبي أو الولاء للحزب، ففي "الحالة اللبنانية" يتمحور هذا الطابع حول "الأحزاب الحاكمة"، التي ذهبت إلى توسيع القطاع العام وتضخيمه، لتصل أعداد موظفيه إلى ما يقارب 300 ألف شخص (صحيفة النهار، 18/2/2019)، نصفهم كما تفيد دراسات ومسوحات ميدانية لا حاجة لهم، ولا عمل سوى تقديم ولاءاتهم للأحزاب وزعمائها.
وفي حال التمعن في طبيعة الحراكات المطلبية التي يشهدها لبنان في هذه الآونة، تتقدم إلى 
العين الناظرة تظاهرات وإضرابات العسكريين المتقاعدين، والقضاة، وموظفي المصرف المركزي، و"صندوق الضمان الاجتماعي" والعاملين في مرفأ بيروت، وأساتذة الجامعة اللبنانية والمدارس الرسمية، والمستشفيات الحكومية، ومؤسسة كهرباء لبنان، وغيرها من المؤسسات العامة التي يطفح فيها التوظيف الحزبي إلى حدود بلوغه نسبة 25% من حجم القوى العاملة في لبنان، في حين تبلغ نسبة العاملين في القطاع العام الفرنسي 12%، وفي اليابان 6% (صحيفة الأنباء، 15/11/2018).
وما يمكن قوله، إن طبقة الموظفين الحزبيين المعترضة في هذه المرحلة على إجراءات التقشف في الموازنة المفترضة للحكومة اللبنانية، ينطبق على حراكها توصيف "انتفاضة الجماهير الحزبية" على أحزابها، التي صاغت معها معادلة "التوظيف مقابل الولاء"، وهي المعادلة التي ارتسمت معالمها بصورة ملحوظة بعد إسدال الستار عن الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، ثم توسعت أرضيتها بتغولٍ غير مسبوق في العقود اللاحقة، مع دخول قوى سياسية جديدة إلى نظام المحاصصة الطائفي والحزبي الذي أخذ يجتاح القطاع العام اللبناني، في ظل تدني فرص العمل في القطاع الخاص، من جرّاء الأزمات السياسية والأمنية المتعاقبة منذ عام 2005، وانعكاس ذلك على الدورة العامة للاقتصاد اللبناني.
عملية "التجنيد الوظيفي" التي اعتمدتها الأحزاب اللبنانية مع "جماهيرها"، تبدو الآن أمام منعطف خطير، فالأحزاب من جهة لا تمتلك رؤى لتصحيح الاقتصاد اللبناني، و"الجماهيرالحزبية" من جهة ثانية تعتبر أن مكتسباتها الوظيفية نتيجة نضال سابق وقاعدة لولاء لاحق، وهذا ما يضع الطرفين لأول مرة أمام سؤال صعب وحاسم، عنوانه كيفية تجديد العقد بين "الجماهير" وأحزابها. وتحت طيات هذا السؤال، يدور السجال بين "الأحزاب الحاكمة" بشأن طريقة توزيع الخسائر على "الجماهير الحزبية"، فيُطرح تارة إلغاء رواتب الأشهر الفائضة عن الاثني عشر شهراً، وفي طور آخر خفض نسبة معينة من رواتب 
المتقاعدين، أو تقليل حجم التقدِمات الصحية والتعليمية، وفي طور ثالث التراجع عن زيادة الأجور المقرّرة قبل فترة، وفي حين رابع إبقاء الحال على ما هي عليه، مقابل رفع الرسوم على الكهرباء والمحروقات، أو زيادة الضرائب على الواردات السلعية المختلفة، ما يعني تدوير رفد الخزينة اللبنانية من اقتطاع للرواتب والتقدِمات العامة إلى الضرائب المباشرة.
ومهما يكن من أمر، تبدو القيادات الحزبية مصرّة على إجراءات التقشف والمواجهة مع قواعدها الموالية، وهي تعمل على خطين: الأول، عدم الاقتراب من مكامن الفساد الواسعة، لأن ذلك يمسّ مصالحها المباشرة، مثل إيقاف العجز والهدر في قطاع الكهرباء والمقدّر بملياري دولار سنوياً، أو التهرّب الضريبي الذي يقارب الأربعة مليارات دولار في السنة الواحدة، وحتى في مجالات الرسوم، فالدولة اللبنانية تتغاضى عن تحصيل مستحقاتها، على سبيل المثال، من المنتجعات القائمة على الشواطئ، التي تتجاوز ثلاثمائة مليون دولار ("الدولية للمعلومات"، 26/5/2018). كما يمكن للدولة اللبنانية أن توفر خمسمائة مليون دولار، لو أخذت على عاتقها شراء المشتقات النفطية، بدل إعطاء حق الاستيراد لشركتين خاصتين محسوبتين على أصحاب النفوذ والسطوة ("الدولية للمعلومات"، 2/6/2018). الثاني: قناعة القيادات الحزبية بتفكك التمرّد الحاصل، انطلاقاً من امتلاك هذه القيادات أسباب قوة التوظيف والإقالة والمحاسبة، كما أن انعدام التنسيق بين القطاعات المنتفضة وعدم اتجاهها إلى نقل قضاياها المطلبية من الإطار الفئوي إلى الحيز العام يجعلها في موضع بالغ النحول، يُضاف إليه عامل الرهان على الزمن الذي يكفل إسقاط الإحباط واليأس على المنتفضين.
بصورة عامة، تبدو إجراءات التقشّف، المفترض أن يذهب جلّها أو بعضها إلى الموازنة العامة للدولة اللبنانية، امتحاناً لآخر حروب تطويع الفئات الأهلية، من خلال تحميلها جزءاً مما أفسدته 
الطبقة العليا. وهذا بحد ذاته مغامرةٌ من الأحزاب الحاكمة برصيدها الموالي، ومخاطرة أيضاً من المنتفضين باحتمال الاحتفاظ بمواقعهم الوظيفية، أو خسارة مكتسباتهم الخدماتية. وفيما يظهر أن حراك العسكريين المتقاعدين يستوي على عوامل قوة معقولة، نظراً إلى الأبعاد المعنوية والوطنية التي تصبّ في صالحه، فإن حراكات القطاعات الوظيفية الأخرى تفتقر للأبعاد المذكورة آنفاً. وقد يحدّ هذا الأمر من استمرارها، أو قد يدفع إلى النيل السهل منها.
وحين يقال إن الأحزاب تخوض آخر "حروب التطويع" مع الفئات الأهلية، فلأنها هذه المرة تواجه جمهورها اللصيق، بعدما كانت واجهت الجمهورالعام في أكثر من واقعة وموقع، مثلما حدث مع "الحراك المدني" في أغسطس/ آب 2015، فجففت منابته بالترهيب والاتهام. ومثلما جرى بعد ذلك مع روابط التعليم الثانوي وهيئة التنسيق النقابية، وحراكات متفرقة ذات مضامين اجتماعية وبيئية، أتيح خلالها للأحزاب الحاكمة أن تفرّق شمل مجمل هذه الحراكات، ومن ثم تركت هذه الأحزاب لنفسها المطمئنة.
هذه المرة الواقعة تختلف، والمواجهة تختلف، فالأحزاب قبالة جماهيرها، وهي أمام اختبار فرض الطاعة على هذه الجماهير، فيما الأخيرة أمام امتحان الاستمرار في الدفاع عما تعتبره مكتسبات وحقوقاً، أو العودة إلى بيت الطاعة وبالطريقة التي يشاؤها صاحب القرار وصاحب السلطة.
921D5B38-CE51-4A73-AFBF-A9A3FB8A54E6
921D5B38-CE51-4A73-AFBF-A9A3FB8A54E6
توفيق شومان

كاتب وصحافي لبناني، محاضر في الإعلام وسياسات الشرق الأوسط، أصدر وأشرف على إصدار عدة كتب.

توفيق شومان