تلك الجريمة البعيدة.. وغيرها

تلك الجريمة البعيدة.. وغيرها

13 مايو 2019
+ الخط -
لا ضرورة لإجهاد الأذهان في البحث عن أغراضٍ أرادها جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، من تزويده صحيفة يديعوت أحرونوت بتفاصيل التفاصيل لجريمة اغتيال القادة في حركة فتح، أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، في بيروت في 1973، كما نشرتْها قبل أيام، فمن أعراف دولة الاحتلال وتقاليدِها أن تزيل السّرية عن وقائع وحوادث، وعن جرائم ارتكبتها بوصفها بطولاتٍ، عندما لا ترى في الأمر حساسيةً باقية. حدث ذلك مراتٍ. ولنا، نحن العرب، أن نخمّن أن إسرائيل تريد تذكيرنا بأياديها الطولى، وبأنها كانت قادرةً على تنفيذ عملية اغتيال مروّعة، خططت لها جيدا وطويلا، في عاصمةٍ عربيةٍ قبل ستة وأربعين عاما، ثم ظلت قادرةً أيضاً على خطف مهندس فلسطيني، اسمه ضرار أبو سيسي، من أوكرانيا (2011)، وقتل مهندس تونسي، اسمه محمد الزواري، في صفاقس (2016)، وقادرة أيضا وأيضا على قتل الأسير السابق لديها سمير القنطار في سورية (2015). ولكن هذا ليس الأهم، فالوحش الإسرائيلي لم يكفّ يوماً عن العدوان واستهداف المقاومين والمجاهدين الذين جاء مخزياً من صحيفة سعودية، أخيراً، رميها بعضَهم بالإرهاب. وإنما الأهم ربما أن يقرأ العرب، وفي مقدمتهم الفلسطينيون، المخّ الإسرائيلي، كيف يصنع القرار، وكيف يخطّط، وكيف يقترف ما يريد. وفي المنزلة نفسها من الأهمية ألا تُنسى الجرائم الإسرائيلية، وأن تُحمى أسماء الشهداء والمقاومين والأسرى من الإهمال.
كانت حربَ اغتيالاتٍ شرسةٍ نشطت فيها إسرائيل، فيما شقّ تيارٌ فلسطينيٌّ مقاوم أسلوب خطف طائرات ورهائن إسرائيليين، في ميونخ (1972) وغيرها. في تلك الغضون، فعل التدبير الإسرائيلي جريمته التي قضى فيها عدوان والنجار وناصر، وطالعنا في "يديعوت أحرونوت" أن نحو ثلاثة آلاف جندي ومخبر وموظف شاركوا في العملية التي أدى فيها الجنرال اللاحق، إيهود باراك، دورا غليظا، لمّا ارتدى زي امرأة، وهو يقتُل بالرصاص، ويشارك في الإغارة على منازل الشهداء الثلاثة. وقد قال، تاليا، إنه لو كان فلسطينيا لانتسب إلى إحدى المنظمات "الإرهابية". وتشتمل التفاصيل التي أعطيت للصحيفة العبرية ونشرتها على عناصر إثارةٍ وتشويقٍ قصصيةٍ وفيرة، منها أن ثمّة عميلا غير إسرائيلي كان مقيما في بيروت، وأنهم ابتعثوا عميلة يهودية من كندا لكتابة "سيناريو تلفزيوني"، فيما السيناريو الذي انشغلت به مسح أمكنة القتل، والمساعدة في تأمين أسباب نجاحه. تنشر "يديعوت أحرونوت" صورة العميلة تلك، ورسوما أعدّت في حينه، وتخطيطاتٍ، وصور سياراتٍ وأبنيةٍ روقبت. وليس في الوسع أن يحسم قارئ التقرير المهم هذا ما إذا كان قولا للصحيفة، أم لمن زوّدوها بما نشرت، إنّ قتل القادة الفلسطينيين الثلاثة في بيروت ربما يكون أكبر عملية اغتيال في القرن العشرين، وإن إسرائيل امتلأت فخراً واعتزازاً لنجاحها في تلك العملية الجريئة في قلب بيروت.
لعلها مصادفةً، أو ليست كذلك، أن تنشر الصحيفة العبرية التقرير المفصّل عن وقائع تلك الليلة في ربيع بيروتي بعيد، في أثناء حملة لوبياتٍ وأصابع إسرائيلية في الولايات المتحدة ضد الفلسطيني عامر النجار (29 عاماً)، المرشّح عن الحزب الديمقراطي لمقعدٍ لولاية كاليفورنيا في الكونغرس، لا لشيءٍ إلا لأنه حفيد أبو يوسف النجار، أحد الشهداء الثلاثة في تلك الجريمة المشهودة. وتُساهم الصحف في دولة الاحتلال في تشويه الشاب الطموح، والناجح، والذي يعتنق مقولة السلام مع إسرائيل، إذا ما قبلت حق الفلسطينيين في تقرير المصير والاستقلال والمساواة، فتكتب "يديعوت أحرونوت" و"هآرتس" عن الجد "الإرهابي الذي اغتيل"، وقربِه من ياسر عرفات. وإقامةُ إسرائيل على رفض الفلسطيني، أيا كان، هي المعنى المرجّح في تزامن إشهار ذلك المقطع الوسخ من الأرشيف الإسرائيلي مع الحملة الشرسة والنشطة هناك في أميركا، ضد الناشط الفلسطيني الذي يتحدّث عن رؤية والده جريمة قتل والده وأمه إبّان كان في الحادية عشرة من عمره، من دون أن تستحكم في حواشيه (الحفيد) نوازع الثأر، بل تقيم فيه ثقافة التسليم بالحقائق القائمة، من دون التنازل عن الحقوق الفلسطينية.
لا يكفّ العدو الإسرائيلي عن محاربة الفلسطينيين على جبهات الماضي، وفي جبهات الخارج والداخل، في كل أرض، فيما الفلسطينيون يقيمون في قاعٍ مروّع، عندما يعتدي ممثلون منهم، في مواقع مسؤولية، على البديهيات، بل وعلى العقل أيضا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.