الربيع العربي والجزائر والاحتجاجات السلمية

الربيع العربي والجزائر والاحتجاجات السلمية

12 مايو 2019
+ الخط -
أعادت المظاهرات السودانية والجزائرية الاعتبار إلى مجمل الاحتجاجات والثورات الشعبية العربية، بعد سلسلة طويلة من مشاهد القتل والإعدام والاعتقال وكم الأفواه التي مارستها الأنظمة الإجرامية في مواجهة تحركات الشعوب الحرّة، الحالمة بمستقبل أفضل، كما حدث في سورية ومصر واليمن والمغرب.. إلى آخر القائمة. لكن وبعيداً عن الانخراط في جوقة المعجبين والمسحورين بجمالية التظاهرات السلمية في شوارع الجزائر، ومن شرفاتها، وعلى أسطح عماراتها، أو المحذّرين من كيد السلطة وخبثها وكذبها وتحايلها، وهو ما أتفق معه إجمالا، من المفيد التعاطي الآن مع سلمية الحركة الشعبية بمنتهى الموضوعية والدقة، وبأقصى درجات الحياد الممكنة، من أجل حماية الاحتجاجات من فرط الثقة والغرور الذي قد يجرفها إلى مسارٍ مختلف، عندما تتعقد الأوضاع، وإحقاقا للحق في ما يتعلق بجميع الثورات العربية التي لا يمكن طمس تاريخها ومسارها وكيفية تحولها إلى السلاح؛ وإن تم نسيان ذلك في زحمة الواقع السوداوي الراهن، فقد حافظت ثورة الشباب اليمني على طابعها السلمي نحو عام، على الرغم من حوادث القتل والقنص التي مارستها أجهزة الأمن بحق المتظاهرين. وعلى الرغم من توفر السلاح وانتشاره الواسع في اليمن، وقد عودنا الشباب اليمني الثائر على استخدام الأهازيج الاحتجاجية، المنسجمة مع هتافات الحشود وتفاعلها، بصورة إبداعية مميزة نادرة الحدوث، والتي طبعت غالبية المظاهرات اليمينة، وأكدت على حب اليمنيين الحياة العادلة والكريمة، 
ونبذهم العنف والقتل. كما اعترف الرئيس السوري، بشار الأسد، بنفسه بسلمية الثورة السورية في أشهرها الستة الأولى، والتي شهدت تجمعات سلمية عديدة مميزة، كاعتصام ساحة حمص، ومليونيات حماة ودير الزور، إذ لم تتوقف المسيرات السلمية حتى أقدم الجيش السوري والعصابات المسلحة التابعة له على اقتحام المدن والبلدات الثائرة، وخصوصا ذات الحضور السلمي والكبير جماهيريا، فلم تتردّد هذه القوى الإجرامية عن ارتكاب أبشع المجازر وأشنعها بحق المدنيين السلميين؛ فضلاً عن حملات الاعتقال التعسفية واسعة النطاق التي طاولت جميع شرائح المجتمع، بالإضافة إلى القصف، بعيد المدى وقريبه عبر قذائف الهاون والصواريخ والبراميل المتفجرة، والقصف الجوي، وصولا إلى استخدام أسلحة عديدة محرّمة دوليا، مثل القنابل الفسفورية والأسلحة الكيميائية. وبالتالي، عبرت الحشود الشعبية العربية عن مطالبها وآمالها بوسائل سلمية لأشهر عديدة، على الرغم من عنف السلطات الحاكمة وإجرامها وتعنتها المستميت.
لا تنتقص هذه الاستعادة التاريخية من قيمة المظاهرات السلمية الجزائرية، بقدر ما تحاول تسليط الضوء على أسباب تراجع الوسائل السلمية التي لا يمكن ردها إلى حاجة الشعوب للدفاع عن ذاتها أمام فاشية الأنظمة وإجراميتها المتواصلة أشهرا عديدة، كونها مجرد رد فعل عفوي ومحدود الإمكانات، لا يملك القدرة على تغيير مسار الثورة أو الأحداث، بل هي نتيجة نجاح النظام والمجتمع الدولي بعد مدة طويلة نسبيا في زرع مجموعات مسلحة طائفية وجهادية وقبلية، ذات إمكانات واضحة، وأجندات خاصة تتناقض مع أهداف الحراك السلمي وتوجهاته، من أجل حرف الحراك (الثورة) نحو العسكرة. وهو ما يؤكد على دور الأنظمة والمجتمع الدولي في خنق الاحتجاجات السلمية، وتمكين قوى الثورة المضادة من اعتلاء المشهد المحلي، وحرفه إلى صراعات عسكرية تخدم أجندات دولية فقط.
كما علينا استذكار بعض التفاصيل الإعلامية والتصريحات الحكومية المبطنة في فترة الحراك الشعبي السلمي، وأبرزها من مصر، التي حاولت ترويج حصر التظاهرات داخل ميدان التحرير، بعد إفراغه من الدوائر الحكومية، على اعتبارها خطوة تحاكي تجربة "هايد بارك" (في لندن)، في حين كان الهدف الحقيقي منها تهميش التظاهر، والحد من تأثيره على عمل الحكومة والنظام، وتحويله إلى هتافاتٍ بشريةٍ تفقد قوة تأثيرها وفرض إرادتها، على مبدأ للشعب كامل الحق في الصراخ الأجوف وللنظام الحق في تسيير الأمور كما يشاء. وهو ما يبدو أن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة تطبيقٌ شبه حرفي له، كونه خطوة أولى في مسار إبعاد جميع دوائر الدولة ومراكزها عن متناول الشعب المصري، كي يصعب وصول الحشود الشعبية المحتجة إليها ويسهل قمعها في الوقت نفسه مستقبلا.
إذا، وعلى الرغم من روعة التظاهرات السلمية الجزائرية والسودانية، إلا أنها مطالبة بتحصين 
الوعي الشعبي، ورفع مستوى التنظيم والحذر والتربص، فالمخاطر والمكائد ما زالت تتربص بها وتنتظر الفرصة المواتية كي تنقض عليها، وتتمكّن من إزاحتها عن المشهد، واستبدالها بقوى مضادة للثورة، تعمل على إعادة تثبيت النظام، أو استبدال بعض رموزه بآخرين، ممن يلبون مصالح القوى الخارجية الداعمة لهم. بالإضافة إلى خطر تحويل المظاهرات إلى روتين ممل، بلا أفق واضح، يحاصر المجتمع ويخنقه، ويحد من قدرته على الحياة، ولا يملك أي نظرة لسبيل الخروج من التيه الذي أدخلته به الأنظمة والمعارضة التقليدية العاجزة عن تحليل الأوضاع وتقديم الرؤى الواضحة، من خلال تحويل التظاهر إلى وسيلة التعبير الرئيسية، وربما الوحيدة، بدلا من تفعيل الدور الإعلامي والثقافي والعمل السياسي الاحتجاجي والتنويري التحريضي منه والبناء، فلم يعد التظاهر والاحتجاج السلمي كافيين كي نضمن تحقيق المصالح والأهداف الشعبية، أو كي نستكين إلى زوال خطر تصاعد العنف والقتل والصراع المسلح، بل علينا، منذ اليوم، أن نستفيد من مجمل دروس الثورات العربية التي أكدت أولاً على سمو وعدالة القيم والأفكار التي تمتلكها الشعوب، متمثلة في لائحة المطالب الاقتصادية والسياسية والقانونية، وفي وسائل التعبير التي اصطفتها الحركات الشعبية، وابتكرتها من وحي قيمها وعاداتها. وأوضحت ثانيا أن التغيير والارتقاء بالدولة والمجتمع يتطلبان الرؤية والقراءة السياسية الناضجة والعلمية، وإلا سوف تتوه الشعوب في زواريب السلطات الحاكمة والقوى الخارجية المتدخلة وألاعيبهما. كما أثبت الواقع العربي ضرورة استمرار الحذر، وتطوير الوعي الشعبي، كي يتمكن من التصدي لجميع محاولات النكوص والردة على إنجازات الثورة في أي مرحلة مستقبلية، كما حدث في بعض التجارب العربية، وفي مقدمتها التجربة المصرية التي تبدو اليوم كأنها أمام محاولات توطيد حكم فردي استبدادي وشمولي، يفوق ما كان قائما في المرحلة التي سبقت الثورة.
في النهاية، طوبى لجميع الشعوب الحرة الساعية إلى بناء مستقبل تستحقه، تسوده قيم الحرية والعدالة والمساواة، في الجزائر والسودان وغيرها من الدول العربية وغير العربية. وطوبى لكل من يعمل على تطوير وعي الحركة الاحتجاجية وتنظيمها، ويحميها من مكائد السلطات ومتاهات المصالح والتدخلات الدولية، بنظرة موضوعية وعقلانية، تشيد بما لها وتنتقد بوضوح ما عليها تداركه والحذر منه.