إسبانيا.. الاستثناء اليساري في زمن اليمين

إسبانيا.. الاستثناء اليساري في زمن اليمين

12 مايو 2019

(Getty)

+ الخط -
قرّر الإسبان، نهاية الشهر الماضي (إبريل/ نيسان 2019)، أن يشكلوا، إلى جانب البرتغال، الاستثناء اليساري في القارة العجوز، بالتصويت لصالح حزب العمال الاشتراكي ذي التوجه اليساري، في الانتخابات التشريعية المبكرة. في وقتٍ تزداد فيه هيمنة الحكومات اليمينية واليمينية المتطرّفة، على عدة دول أوروبية (إيطاليا، المجر، النمسا، التشيك...)، فقد تصدر الاشتراكيون النتائج بمجموع 123 مقعداً، والتي تمثل 29% من الأصوات المعبر عنها، ما يعني زيادة 37 مقعداً عن الانتخابات السابقة. وفي المقابل، تقهقر الحزب الشعبي اليميني المحافظ بعد تعرّضه لأكبر هزيمة في تاريخه السياسي، أفقدته 71 مقعدا، حيث اكتفى بحصد حوالي 17% من الأصوات التي تعادل 66 مقعدا في البرلمان، فيما كان نصيبه في الانتخابات السابقة 137 مقعداً.
جاء حزب المواطنين (اسيودادانوس) الليبرالي؛ المصنف نظريا حزبا من الوسط، لكنه يميل إلى اليمين في معظم سياساته، ثالثا، بحصوله على 57 مقعدا، متجاوزا نتيجة الانتخابات السابقة بزيادة 25 مقعدا. تلاه حزب بودسموس، اليساري الراديكالي، في المركز الرابع، بمجموع 42 مقعدا؛ أي ما يعادل 14% من الأصوات فقط، مسجلا بذلك سقوطا مخيبا، فقد فيه 29 مقعدا مقارنة مع نتائجه السابقة. وكانت المفاجأة الأبرز ما حققه حزب فوكس (الصوت) اليميني الشعبوي المتطرّف، بحلوله خامسا بـ 24 مقعداً، حاصلاً على 10% من الأصوات، مسجلاً بذلك أول دخول له للبرلمان، في أول مشاركة له في الانتخابات التشريعية. وقلل تدافع الأحداث على الصعيد الدولي وسرعتها من الاهتمام بما جرى في المملكة الإسبانية، 
على الرغم مما يحمله من معطيات تفنّد "مزاعم" عديدة، كثر تداولها حتى تطبّع معها الخبراء وصاروا يقدمونها حقائق في تحليلاتهم.
شكلت نسبة المشاركة التي بلغت 75.8%؛ في ثالث انتخابات تعرفها إسبانيا في أقل من أربع سنوات، بزيادة 9 نقط عن الانتخابات السابقة، مفاجأة غير متوقعة لمراقبين كثيرين، ممن أصبحوا خبراء في تبرير ظاهرة العزوف الانتخابي الذي تشهده أعرق الديمقراطيات في العالم. وتجد هذه النسبة المرتفعة مبررا لها في التنافس الانتخابي المحموم بين الأحزاب، من جرّاء التباين في البرامج السياسية، بسبب نوعية القضايا والمواضيع المطروحة للنقاش (انفصال كتالونيا، مسألة الإجهاض، ملف الهجرة، الشأن الاجتماعي، الاستثمار..) من ناحية. ومن ناحية أخرى، في وعي الإسبان بدور أصواتهم وأهميتها، بغية تجاوز حالة الجمود التي باتت تطبع المشهد السياسي للبلاد.
من شأن تلك النسبة أن تتحول إلى إشكال حقيقي لدول عديدة مجاورة لإسبانيا (فرنسا، المغرب، تونس..)؛ خصوصا أنها تبقى ضمن خانة البلدان حديثة العهد بنادي الدول الديمقراطية. لقد وضعت المحطة الانتخابية الـ14 في تاريخ إسبانيا منذ تحقيق الانتقال الديمقراطي حدا لقائمة جاهزة من المبرّرات، يتم الرجوع إليها في دول عديدة، عند كل موسم انتخابي منقوص؛ تنتصر فيه المقاطعة، ويتكرّس فيه العزوف.
ويبدو أن السيناريو المكسيكي، بانتخاب اليساري لوبيز أوبرادور، السنة الماضية، يتكرّر في إسبانيا، باختيار الإسبان منح أصواتهم لليسار المعتدل، واضعين بذلك حدا لسيطرة اليمين على البلاد لسنوات عديدة. وهو قرار يحمل في طياته رسائل كثيرة، لعل أهمها تلك الموجهة إلى الاتحاد الأوروبي، وفيها يعلن الإسبان دعمهم له، وانتصارهم لخيار الوحدة الأوروبية، نقيض ما يجري في دول أخرى، مثل بريطانيا، التي تسارع الزمن من أجل الخروج، وإيطاليا التي يسيّرها حزب ضد الوحدة الأوروبية. فزعيم الاشتراكيين بيدرو سانشيز الذي كاد أن يفقد منصبه في قيادة الحزب، قبل ثلاثة أعوام، بعد تزايد المطالبين بإقالته على خلفية الهزيمة الانتخابية لحزبه، يعود اليوم إلى رئاسة الوزراء، بسبب أدائه وقدرته على المناورة السياسية والبرلمانية، خلال الفترة الانتقالية التي تلت سحب الثقة من حكومة اليميني، ماريانو راخوي، بسبب قضية فساد في يونيو/ حزيران 2018.
كان اختراق اليمين المتطرّف ممثلا في حزب فوكس الساحة السياسية، ودخول المؤسسة 
التشريعية، إحدى مفاجآت هذه المحطة الانتخابية، بحصوله على 24 مقعدا، بعد أن كان هامشيا قبل أشهر فقط. أحدث الحزب زلزالا سياسيا بحصوله على نحو 10% من الأصوات، في أول ظهورٍ لهذه الإيديولوجيا في المشهد السياسي الإسباني منذ زمن فرانكو. وقد تأسس الحزب عام 2014 على يد أعضاء سابقين في الحزب الشعبي المحافظ، ممن امتعضوا من السياسات الفاشلة له، خصوصا موقفه الباهت من النزعة الانفصالية المتزايدة في إقليمي الباسك وكتالونيا. يدافع في أدبياته عن التقاليد والثقافة الإسبانية، أو ما يسميها "الهوية الإسبانية" التي تتعرّض، في نظر أعضائه، للحصار (منع مصارعة الثيران مثلا)، ويتبنّى خطابا مناهضا لحقوق المرأة والمهاجرين والوحدة الأوروبية والانفصاليين.
كان هذا الحزب الوليد محط سخرية الإعلام الإسباني، بإصراره على استنساخ كربوني للحلول، واجترار للخطاب الذي تردده أحزاب اليمين المتطرّف في العالم، وتحديدا دفاعه عن كل ما هو إسباني، حد الحنين لفترة استعمار القارة الأميركية، والمطالبة بإقامة جدار يفصل مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين عن باقي المغرب، مع إجبار الأخير على تسديد تكلفة بنائه. ووضعت هذه المحطة الانتخابية رئيس الوزراء، بيدرو سانشيز، في موقف لا يُحسد عليه، حيث لم تمنحه نتائج تمكّنه من تشكيل حكومة يسارية على مقاسه، قصد تنفيذ برنامجه الانتخابي الذي بوّأه الصدارة؛ بعد أقل من 36 شهرا على هزيمة قاسية. وفي مقابل ذلك، تدفعه مخرجات الصناديق مضطرا نحو إقامة ائتلاف حكومي مع حزب المواطنين (بوديموس) الوسطي؛ ذي الميول اليمينية. وهذا خيار يأتي ضد رغبة قواعد حزبه ومناصريه، ممن جدّدوا فيه الثقة بقوة الصندوق، بعد أزمةٍ سياسيةٍ عصفت بحكومته السابقة، وبذلك تكون أخطاء المحاولة الأولى بالنسبة لسانشيز مرفوضة تماما في الفرصة الثانية.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري