رسالة أوجلان

رسالة أوجلان

11 مايو 2019
+ الخط -
كانت العادة منذ تسلّم حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا أن يخاطب زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، مناصريه عبر رسائل مطوّلة. قبل ذاك، كانت مرافعاته أمام المحاكم التركيّة وسيلته في بث رؤيته لحل المسألة الكردية في تركيا، وفق خرائط طريق أعدّها بعناية، بيد أن العزلة التي فرضتها الحكومة على الرجل أفضت إلى التكتّم عن أفكاره ورؤيته التطوّرات ونظرته إلى الأحداث. تراجع إحكام العزلة قبيل الانتخابات البلدية التركية، من خلال السماح لشقيق أوجلان بزيارته التي وُصفت حالته السياسية بالجيدة، من دون حديثٍ في تفاصيل أخرى، وكان أمر الزيارة تعبيراً عن إمكانية تخفيف وطأة العزلة ومقدّمة للسماح لمحاميه بلقائه، هم الذين ما فتئوا يتقدّمون بمئات طلبات الزيارة التي قوبلت بالرفض من النائب العام. وقد تمكّن محامو أوجلان من زيارته أخيرا، وأفصحوا عن رسالة مقتضبة، كثرت التكّهنات والتفسيرات حولها.
سبق أن تُوّج جهد أوجلان الحثيث ببدء مرحلة الهدنة بين "الكردستاني" والحكومة التركية، وبات الحديث عن عملية سلام كردية تركية أقرب إلى الصيغة الواقعية الوحيدة المتاحة، غير أن عملية السلام وما رافقها من هدنةٍ تهدّمت منتصف 2015 بفعل عدّة عوامل، ليس آخرها تطوّر الأوضاع في سورية التي مكّنت وحدات حماية الشعب من تشييد كيان كردي، طمح القائمون عليه إلى التمدّد غرباً للوصول إلى شواطئ المتوسّط، الأمر الذي وضع الأتراك في حيرةٍ إزاء وحدات محلّية بدت قادرةً على تشكيل كيان ملهم لأكراد تركيا، وقادرٍ على تقوية مركز الحزب في أي مفاوضاتٍ مقبلة مع الحكومة التركية، وكذا شكّل تحالف الوحدات عبر رافعتها الأوسع قوات سورية الديمقراطية (قسد) وقوّات التحالف الدولي مرآة جديدة، ترى عبرها تركيا حقيقة حجم القوّات الكردية، ما استلزم جهوداً تركيّة مضاعفة لتطويق هذه الحالة، تمثّلت في عمليتي "درع الفرات" التي قطعت الطريق على التمدد الكردي، ثم "غصن الزيتون" التي انتهت باحتلال عفرين، ثالث مقاطعات "كانتونات" الإدارة الذاتية، أواخر مارس/ آذار 2018.
تحدثت الرسالة عن وجوب أن تراعي (قسد) "الحساسيات التركية"، ما يعني أن عزلة أوجلان والتعامل معه بغلاظة لم يكونا الحل الأمثل طوال المدّة السابقة، وأن الإفادة من رسائله التي 
تركّز على التعاون ووقف الحرب أهم بكثير من محاولات عزله وطمس أفكاره. كما يصحّ الحديث أن المستفيد من مناخات الانسداد السياسي، كانت الأحزاب التركية الأخرى، إذ استثمر فريقها المقرّب والحليف الحالي لحزب العدالة والتنمية، حزب الحركة القومية، في تقوية نفوذه القوميّ المتطرّف على حساب الحزب الحاكم، وكان لشريك حكم أردوغان ورئيس وزرائه الأسبق، أحمد داود أوغلو، تعليق مهم في هذا الصدد، إذ اعتبر أن هذا التحالف مكلف لـ"العدالة والتنمية"، وربما كان يقصد أنه تحالف يقوّي من مركز القوميين الأتراك، على حساب المعتدلين والأكراد والأوساط المحافظة، من دون أن يجني "العدالة والتنمية" (الحاكم) أي منفعة. بدرجة أكبر، استفاد معارضو الأخير، وفي مقدمتهم حزب الشعب الجمهوري الذي نفذ من شقوق الخلافات التي تتصاعد بين "العدالة والتنمية" وحزب الشعوب الديمقراطي الذي كان قد سدّد طعنة نجلاء للحزب الحاكم، عندما وجّه ناخبيه في كبريات الولايات لدعم خصوم 
أردوغان، ما أفضى إلى تقدّم المعارضة في إسطنبول التي مثّلت منطلق سيرة نجاح "العدالة والتنمية"، ودرّة تاج حكمه الطويل. ولعل التذكير بتصريح زعيم الشعوب الديمقراطي الأسبق، صلاح الدين ديمرطاش، في معرض تعليقه على نتائج الانتخابات البلدية التركية، "لسنا أغبياء"، يشي بتطوّر تكتيكات الحزب الانتخابية، وقدرته على التحكّم في المشهد السياسي، عبر دعم مناوئي الحزب الحاكم، حتى وإن لم يحملوا أي أجندة خاصّة لحل المشكلة الكردية. والمهم في هذا السياق هو الربط بين رسالة أوجلان وجولة إعادة الانتخابات في إسطنبول، إذ من شأن تطبيع العلاقة بين أوجلان والحكومة التركية إفساح المجال لتوقّف الناخب الكردي من إيذاء "العدالة والتنمية"، أو تحييد الكتلة الكردية على الأقل، والحال أن رسالة أوجلان القصيرة قد تشكّل مدخلاً للتطبيع بين الأكراد في تركيا وسورية على حدٍّ سواء والأتراك، وقد يؤدي إلى صعودٍ موازٍ للجانبين، شريطة أن يُبنى على ما قاله أوجلان، وعدم التعامل بخفّة مع الرسالة، كما حصل مع رسائله السابقة.
لا يمثّل القول إن "قسد" ستكون سعيدة بالتعاون مع الجانب التركي إذاعة لسرّ، فقد سبق لقيادة في هذه القوّات أن عبّرت عن رغبتها التوصّل إلى صيغةٍ تنهي التهديدات التركية المتواصلة، من ذلك ما صرح به القائد العام للقوات، مظلوم كوباني، عن وجود اتصالاتٍ مع تركيا، برعاية وسطاء لم يذكر أسماءهم ، كما لا يمكن إغفال النجاح الذي قد تحققه تركيا في حالة التفاوض مع "قسد" لجهة وقف مسلسل التنازلات التي قدّمتها لمنافسيها في سورية، بغية تطويق الصعود الكردي.
أي تقدّم ملحوظ في نتائج انتخابات إسطنبول لصالح الحزب الحاكم، حتى وإن لم يتكلّل الأمر بنجاح له، سيكون مردّه فاعلية رسالة أوجلان، كما أن مراعاة "قسد" للمصالح التركية في سورية ستكون وثيقة الصلة بالرسالة إياها. يبقى الأهم معقوداً على جدّية الأطراف على جانبي الحدود السورية التركية في عدم التعامل مع الرسالة على أنها تكتيك آنيّ، يفرغ المبادرات والرسائل اللاحقة من أي معنى، بل اعتبارها مقدّمة نظرية للتحوّل نحو الحوار والوئام بدل العداء المفتوح.