طفل ضائع

طفل ضائع

10 ابريل 2019
+ الخط -
عندما كنت أحاول أن أشقّ طريقي في أكثر مناطق المدينة اكتظاظاً، وهي المنطقة الأحبّ إلى قلبي، حيث تجتمع فيها رائحة البحر والأرض، سوق الزاوية في غزة، سمعت صوتا صغيرا خجولا، لا يخلو من رجاء يمزّق نياط القلب من خلفي، كان صوت طفل صغير يقول لي من دون أن أرى وجه صاحبه: هل تحبين أن أحمل لك أغراضك؟
كان من البديهي أن ألتفت بسرعةٍ صوب الصوت، وأملأ عيني بصورة الطفل الصغير، ولكني لم أسمح لنفسي بأن ألقي اللوم على ذويه بأن سمحوا له بأن يخرج إلى الشارع ويترك ألعابه، إن كان يمتلك بعضها، أو أن يغادر غرفته الدافئة، ليصبح وسط السوق والزحام والتلوث بأشكاله المتعدّدة، وأن يستبيح براءته، سعيا وراء مبلغ صغير، فقد حدّد المبلغ تلقائيا بمجرد أن وقع نظري عليه وكأنه يقنعني بأن صغر سنه لن يسمح له بمبلغ أكبر، ولكن سيسمح له بأن يحمل مشترياتي الثقيلة بين يديه، وأن يتبعني أينما توجهت، حتى أنتهي من التسوق، وأتجه صوب طريق الخروج من زحام السوق إلى الطريق العام، حيث موقف السيارات.
اكتشفت أن عليّ الرأفة بذوي الطفل، فالطفل هو نتيجة مركبة أو متراكمة لما يحدث على أرض الواقع من أحداثٍ بدأت بالوضع السياسي الذي انعكس على الوضع الاقتصادي بانتشار البطالة بين أرباب الأسر واستفحال الفقر وتدني مستوى المعيشة، بحيث لم يجد الآباء غضاضةً في إرسال أولادهم إلى الشارع طلباً للقمة العيش.
في كل بقعةٍ على وجه الأرض يكون الأطفال الحلقة الأضعف، فلم تنقطع صور الأطفال الذين يدفعون ثمن ويلات الحروب، ويتعرضون للموت تحت القصف، أو الموت غرقا في محاولات الهروب والهجرة. وفي كل بقعةٍ على وجه الأرض، لا يجدر بنا أن نلقي باللائمة على الأهل الذين هم أنفسهم ضحايا لما يحدث في الحلبة السياسية، وهم الذين يسدّدون فواتير الفشل والنجاح، وهم الذين لا ينالون من المحصول المأكول شيئا، ويدفعون ثمن المحصول الفاسد.
في فلسطين، وبتزامن يوم الطفل الفلسطيني مع أحداثٍ مؤسفةٍ بحق الأطفال والقصر، تصدر الإحصائيات عن الأطفال الذين تعرّضوا للأسر خلال السنوات الأخيرة. وتصدر الإحصائيات عن عدد الأطفال الشهداء، ناهيك بالأطفال الجرحى الذين يتحولون معاقين من مبتوري الأطراف، والذين لا يجدون العلاج، ويطالبون برصاصة الرحمة.
في فلسطين، سجلت إحصائيات مفزعة عن الأطفال الأسرى والجرحى والمعاقين كما أسلفت، كما سجلت إحصائيات عن الأطفال الذين يتسوّلون، والذين يتسربون من المدارس، وكل هذه الإحصائيات، إن دلت على شيء، فهي تدل على أن زهور المستقبل، وأمل الغد، هم من يسدّدون الفاتورة في كل وقت، وبعد كل نائبة، فعلى سبيل المثال بلغ عدد الأطفال الأسرى الذين سحبوا من أُسرهم الدافئة، ومن بين أحضان أمهاتهم، ومن فوق مقاعد الدراسة منذ العام 2015 حوالي ستة آلاف طفل. أما العام الحالي الذي لم يمض نصفه فقد شهد استشهاد 11 طفلا فلسطينيا، فقدوا حياتهم بموتهم، وفقدوا حريتهم بأن قبعوا خلف القضبان يشبهون كثيرا الطفل الذي اخترق زحام السوق، وطلب مني أن يحمل مشترياتي في مقابل مبلغ بخس.
الطفل الفلسطيني الذي بهر الدنيا، وما في يديه إلا الحجارة، الذي أضاء كالقنديل وجاء كالبشارة، والذي علّم الدنيا كيف يكون الرجال، وكيف تغدو الحجارة ماسا ثمينا، اليوم يهان هذا الطفل، وهو يدخل في مساوماتٍ رخيصة، وهو يدفع فاتورة الخيبة العربية والفلسطينية، وهو يُحرم من أبسط حقوقه وهو حق الحياة، فيقتل في حضن أبيه، كما حدث مع الطفل محمد الدرة، ويحرق حيا كما حدث مع الطفل محمد أبو خضير، ويحرق نائما كما حدث مع الرضيع سعد دوابشة. وعلى الرغم من ذلك، يستمر ويقاوم وينهض كالعنقاء من وسط الرماد، ويطالب العالم بمناصرته في يومه الذي يصادف الخامس من نيسان من كل عام، يصرخ في وجه العالم: كفاني حملاً ثمن صفقاتكم.

دلالات

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.