لغز التودّد الروسي لإسرائيل

لغز التودّد الروسي لإسرائيل

09 ابريل 2019
+ الخط -
أن تُجزل الولايات المتحدة العطاء لإسرائيل، وأن تمنحها فيضاً، له أول وليس له آخر، من الهدايا المالية والهبات التسليحية والأمنية، وأخيراً المكرمات العقارية، فذلك من بديهيات السياسة الأميركية، ومن أبجديات الإدارات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء. وأن تُقدم الدولة العظمى الوحيدة لحليفها الاستراتيجي في الشرق الأوسط ما يحقق له التفوق العسكري على كل جيرانه، فذلك أيضاً بات من قبيل تحصيل الحاصل، لما للجانبين من مصالح وعلاقات فوق اعتيادية، يطول شرحُها، ولا يتسع المقام لتعدادها. 
أما أن تبدو روسيا الاتحادية، المتباهية بنفسها قطبا دوليا ثانيا، على هذه الدرجة من التودّد، حتى لا نقول الاستخذاء، أمام ربيبة أميركا ومدللتها في هذه المنطقة، فذلك لغزٌ يبعث على الحيرة قليلاً، ويثير علامات التعجب، وخصوصاً أن موسكو تقدم نفسها قوةً عظمى يُخطب ودّها، ودولةً كبرى يُخشى بأسُها، حتى من جانب أوروبا كلها، الأمر الذي يصعب علينا جميعاً فهمه، ناهيك عن عدم تقبله، سيما من قوى الممانعة التي تخلط بين موسكو السوفياتية وموسكو البوتينية؟
كانت العلاقة المُلغَزة بين روسيا وإسرائيل موضع أسئلةٍ إشكاليةٍ لا حصر لها، منذ وضع الرئيس فلاديمير بوتين قدمه في سورية أواخر العام 2015، وصارت هذه العلاقات الهجينة محل علامات تعجبٍ أكبر من ذي قبل، عندما تصاعدت الاعتداءات الجوية الإسرائيلية، واستباحت، منذ ذلك الوقت، مجمل الأراضي السورية، فجرى تبرير غضّ البصر الروسي المريب، كون الغارات تستهدف وجود إيران وحلفائها فقط، فيما سوّغ الممانعون، على مضض، مواقفهم المتسامحة إزاء موسكو، بكثيرٍ من التهافت والمكابرة.
ظل هذا التودد الروسي المبالغ فيه تجاه إسرائيل على حاله، مسكوتاً عنه وخارج النقاش، إلى أن تم إسقاط طائرة الإليوشن الاستخبارية في العام الماضي، فتعكرّت أجواء العلاقة الملتبسة بين طرفين، ذلك أن لديهما أجندتين متباينتين في سورية، إذ طفت في حينه موجة غضب مكتوم في موسكو، سرعان ما تبدّدت لسببٍ ما، ثم عادت الغارات الإسرائيلية إلى سيرتها الأولى، بل وامتدت أخيرا من ضواحي دمشق إلى شمالي حلب، وسط صمت روسي مطبق، يشي بالرضا عن هذه الاستهدافات المركّزة على التموضعات الإيرانية.
غير أن المشهد الجديد من شريط العلاقة الروسية المركبة هذه، ونعني به نقل رفات جندي إسرائيلي من دمشق إلى تل أبيب، مروراً بموسكو، كان مروّعاً وصادماً لجميع المخاطبين به، بمن فيهم نظام الأسد نفسه، الذي قال (عكس ما أكده بوتين) إنه لا علم له بالأمر، وهو ما يزيد الطين بلّة، ويدعو إلى التساؤل عن معنى هدية بوتين هذه، ومغزاها وثمنها وتوقيتها، المتزامنة مع هبّة ترامب الخاصة بالجولان، وكأن أقوى قويين في العالم يتسابقان على أيٍّ منها أكثر كرماً تجاه إسرائيل، وأيهما أشد حرصاً على إعادة فوز نتنياهو في انتخابات الكنيست.
وفق المعايير الموضوعية الصارمة، كان ينبغي لإسرائيل أن تكون الطرف المتودّد لروسيا، وأن تظل متهيبةً من إثارة غضب الدولة النووية فائقة القوة، وأن تتحسّب كثيراً من نزقٍ جارٍ بات يحاددها، لا أن يحدث العكس تماماً، فتبدو الدولة الصغيرة المسكونة بقلق وجودي، صاحبة اليد العليا، دولة يُخطَب ودّها، ويجري استرضاؤها، إن لم نقل تقبيل يدها، على نحو ما بدا عليه بوتين، وهو يهدي دبابة "الميركافا" من السلطان يعقوب إلى نتنياهو قبل نحو عامين، ثم يحتفل بإعادة رفات سائقها وسط مراسم جنائزية تليق بالقادة الكبار.
وأحسب أن كل ما يُتداول عن الثمن الذي ناله بوتين من نتنياهو في مقابل هذه الهدية لا يكفي لتسويغ هذه الفعلة التي أذلت حليفه الأسد، وأسقطت بيد شريكه الإيراني، وأحرجت المتفاخرين بـ"أبو علي" الروسي، فالهدية ثمينة، وبالتالي، فإن المقابل يجب أن يكون ثميناً أيضاً، وهو على الأرجح، امتناع إسرائيل عن جرح الكبرياء الروسية، وإهانة القيصر، بتدمير فخر الصناعات الجوية الروسية على الساحل السوري، أي منظومة إس 300 التي لم يجر اختبارها قط، على الرغم من أن موسكو اختبرت كل صنوف أسلحتها الحديثة.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي