كل هذه الحركة الأردنية

كل هذه الحركة الأردنية

09 ابريل 2019
+ الخط -
قُبيل القمة العربية في تونس الأسبوع الماضي، نشط العاهل الأردني، الملك عبدالله الثاني، في تأكيد دور بلاده في الدفاع عن القدس والتمسك بالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، رافضاً المساومة، أو وضع يده بأيدي دول تنقل سفاراتها في دولة الاحتلال إلى القدس انسجاما مع القرار الأميركي، ليبلغ التصعيد الملكي أقصاه في إلغاء الملك زيارة له كانت مقرّرة إلى رومانيا، بعد تصريح لرئيسة وزراء رومانيا عن نيتها نقل سفارة بلادها إلى القدس، وهو أمر نفاه الرئيس الروماني، في اتصال لاحق مع العاهل الأردني. وقبيل هذا الموقف الدولي، كان الملك يؤكد في الداخل الأردني، وفي أكثر من مناسبة محليّة، منها لقاؤه الجماهيري في الزرقاء، ثم مع قيادات أمنية عسكرية، على أنه لا مساومة أردنية على موضوع القدس، مع التشديد على وضوح الصوت الأردني و"الدور المساند للأشقاء الفلسطينيين في مسار دولتهم وعاصمتها القدس الشرقية". ولقيت تلك التصريحات استقبالاً شعبياً كبيراً، ثم جاء حديثه في أثناء تسلمه جائزة مصباح السلام في كاتدرائية القديس فرانسيس الأسيزي في إيطاليا، وبحضور المستشاره الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، موضحاً الدور الهاشمي التاريخي في الوصاية الهاشمية على القدس الشريف.
كانت مفردة "الهاشمية"، لصيقة بإبراز دور الدولة الأردنية وشعبها، في خطاب الملك، وفي 
أكثر من سياق، استخدمها حين كان يتحدث عن القدس والقضية الفلسطينية، مع التأكيد على رفض مقولة الوطن البديل في الأردن بالنسبة للفلسطينيين، ليبدو جلياً أن استخدام العاهل الأردني مفردة "الهاشمية"، كصفة ولاية وحكم وهوية تاريخية، وليس توظيفاً مجرداً عن بث رسائل خارجية لمن يزاحمون الأردن في أدواره العديدة في المنطقة، وهي رسائل حاضرة أيضاً في الخطاب المحلي الأردني، والخطاب الملكي مع الغرب ومع القادة العرب في قمتهم. وهنا لا تفسير مبطنا لرغبة الملك الذي طوى مسافات كبيرة في زياراته المكوكية أخيرا غرباً، ليعيد استحضار دور بلاده بامتياز، والتذكير بقدرة الأردن على مواجهة تحدّياته، وأبرزها محاربة التطرّف، وتحمل أعباء اللجوء السوري، والحفاظ على القدس ومقدساتها. ولم يكن الملك ليخاطب الناس محلياً، ليقول في خطابه في الزرقاء: "بالنسبة لي، القدس خط أحمر، وشعبي كله معي"، بل هو خطاب "للناس اللي في الخارج" كما قال، والذين أشير إليهم مباشرة، في ذلك الخطاب التوكيدي الحاسم أمام مقولاتٍ رائجة ومسرّبة في إطار صفقة القرن التي تلقى هرولة عربية متسعجلة.
لاحقاً لم يكن الحديث الملكي الأردني أقلّ وضوحاً عن المنطقة مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إذ جدد الملك التحذير من التطرّف والإرهاب، وشدد على ضرورة حل الدولتين في القضية الفلسطينية. وقبيل كل ذلك، كانت زيارته المغرب، ولقاؤه الملك محمد السادس، والتأكيد المشترك على رفض السياسات الإسرائيلية والأميركية تجاه الجولان المحتل وتهديد المقدسات الإسلامية في القدس الشريف. ثم جاء الحديث في قمة تونس التي جزم فيها عبدالله الثاني بأنّ الأردن يقف مع الأشقاء الفلسطينيين من أجل دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية. لكنه أكد أن القدس الشريف بمقدساتها هي ضمن المسؤولية التاريخية والوصاية الهاشمية، وهو ما أكدته كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس عندما قال إن الملك عبدالله الثاني صاحب الوصاية على الأماكن المقدسة في القدس الشريف، و"الشريك" بالنسبة للفلسطينيين في دعمهم لإقامة دولتهم وعاصمتها القدس الشرقية.
بالعودة إلى حديثه في الزرقاء، نجح الملك في إعادة تعبئة الداخل الأردني الذي يستقر فيه نحو 
نصف السكان من أصل فلسطيني، وتوحيده على هدف واحد هو القدس المحتلة وخيار الدولة الفلسطينية ورفض مقولة الوطن البديل، وأي ثمن يمكن أن يدفع للأردن مقابل إخفاض صوته، ليرسم من جديد الخط الأحمر الثابت بالنسبة له بالقول: "بالنسبة لي القدس خط أحمر، ونحن كدولة أردنية هاشمية واجبنا أن نحمي المقدسات الإسلامية والمسيحية". وفي موازاة الحملة الملكية لاستعادة دور الأردن في الغرب، كان العاهل الأردني يرمي ورقة من العيار الثقيل بالاستثمار بخبرة عمه الأمير الحسن بن طلال، بإرساله، مندوبا رسميا عنه، إلى نيوزيلندا للتعزية بضحايا حادثة مسجدي كرايست تشيرتش، ونقل تعازيه لأسر الضحايا، فيقدم الأمير، بخبرته الكبيرة في مجال حوار الأديان، دعماً آخر لجهد الملك ودور الأردن العابر في مكافحة التطرّف، ودولة راعية لحوار الأديان في المنطقة، والاستقرار والأمن والعيش المشترك، بالإضافة إلى القدرة على مخاطبة العالم الغربي بلغةٍ محترمة.
محصلة المشهد الأردني سياسياً، جعلت الملك عبدالله الثاني إحدى الشخصيات الأكثر تأثيراً حسب استطلاع لقناة الجزيرة، قبل أيام، ما ينعكس في ارتياح الملك في القمة العربية، وحركته المكوكية قبيل ذلك، بما قام به من جهد مع الساسة الغربيين عقب زيارته الولايات المتحدة، ولاحقاً في زيارتيه إلى المغرب ومصر. وفي غضون ذلك، كان الشارع الأردني يشهد عودة المظاهرات الحاشدة لدعم جهوده في مسألة الدفاع عن القدس، وهي مظاهراتٌ استبقها الأردنيون باحتفاء شعبي كبير بالشهيد عمر أبو ليلى، وإقامة أعراس أردنية ابتهاجاً بعمله البطولي ضد المحتلين الإسرائيليين في فلسطين.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.