صداقة الشجرة

صداقة الشجرة

08 ابريل 2019

(لؤي كيالي)

+ الخط -
في طريق الصباح أشجار الأكاسيا والبندق والكرز، وأصنافٌ أخرى لا أعرف أسماءها، لكني بنيت معها صداقاتٍ منذ النظرة الأولى. حين أفتح النافذة عند السادسة صباحاً، أتفقد صف الأشجار المقابل، وأراقب حركتها، كي أتعرف على حال الطقس في ذلك النهار، فهي بمثابة مؤشر لي في هذه المدينة التي لا تغادرها الريح. وحين أنزل إلى الشارع، لا أترك شجرة من دون أن أتفقد حالها. ولهذا السبب، أصبح لدي مع الزمن مدونة خاصة بحياة الأشجار في المحيط الذي أعيش فيه. وبلا مبالغةٍ، بت أعرف تعداد الأشجار في محيط المنزل الذي أسكنه، وأسجل تغيراتها في كل فصول العام. وإذا أصاب شجرةً ما مكروهٌ فهو يمسّني ويؤلمني. واكتشفت، مع الوقت، أن هناك صلة بيني وبين الشجرة، ونحن نتقاطع في تحولات المزاج، بين بهجة الربيع وميلونخوليا الخريف وحزن الشتاء القاسي الذي لا يضاهيه سوى الفراق. 
في كل صباح، أفتعل سببا كي أذهب إلى العمل سيراً على الأقدام، مهما كان حال الطقس، وأرمي من أول نشاط يومي تفقد الأشجار في طريقي. وبطبيعة الحال، تروقني شجرة أكثر من غيرها، وحين أجد شجرة صفصافٍ أو حور مثلا، أنشدّ لها أكثر من بقية الأشجار، فهذه الأصناف من الأشجار جزء من ذاكرة الطفولة على ضفاف الخابور في الحسكة، وكثيرا ما أستعيد علاقة عبد الرحمن الداخل بالنخلة حين قال يناجيها:
نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبةٌ/ فمثلُكِ في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي
شجرة الغاف التي تنتشر بكثرة في بعض بلدان الخليج تثير لدي مشاعر خاصة عن البادية، الأم الأولى لهذه الشجرة الطيبة التي تمكّنت، زمنا طويلا، من البقاء على قيد الحياة، على الرغم من شحة المياه، وعاشت مكتفية بزخات مطر قليلة. وحين تزهر شجرة الغاف الأبيض فهي تبدو متزينة على نحو أنيق بلا تكلّف، وتفوح منها رائحة جذابة تجلب إليها النحل الذي يصنع عسلاً صافياً ونافعاً، كما هو عسل الواحات في اليمن الذي يأتي في الصدارة.
الصباح مصدر أساسي للدهشة الشعرية، كونه يفتح العين على كل مصدر إيحاء، ويحرض عين الكاتب على رؤية الصور على نحوٍ خالٍ من التشويش، يخلق خيالاً شعرياً خاصاً للمكان. وفي الطريق اللندني، لا بهجة توازي النزهة بين الأشجار التي جاءت إلى هنا من كل مكان في الكون. وفي حديقة "كيو غاردن"، يندهش المرء من براعة الإنكليز في تهجير (في رواية أخرى سرقة) كل هذا العدد من الأشجار من الجغرافيات والأقاليم كافة. ولا يكفي يوم ولا حتى أسبوع للفرجة على هذه الحديقة التي تتحول في الربيع إلى عرضٍ مفتوحٍ يضاهي عروض عباقرة الاستعراضات.
عدة أشجار لا تغيب عن بالي أبدا، كما لو أنها من أشجار الحياة والمعرفة. تلك التي في بلدة نصيبين قرب القامشلي، نصفها داخل الأرض السورية، والنصف الآخر داخل الأرض التركية، وقريبة من خط سكة الحديد. شجرة معمّرة ووارفة. سألت راعي أغنام عن نوعها، فأفاد بأنها لوز بري، يتشارك في قطافه سكان المنطقة من البلدين، ورغم أن الأرض في محيطها مزروعة بالألغام فإن الناس يعرفون الطريق إلى الشجرة. لهذه الشجرة صلة باسم المنطقة، نصيب منها للسوريين، ونصيب آخر للأتراك، مثلما هم سكان الحدود، لهم نصيب في سورية وآخر في تركيا: نصيبين.
الشجرة التي لا أنساها، كما لو أنها الأم أو المرأة الأولى، هي الزيزفون السوري الذي لا يتكرّر كثيراً في العالم. الرائحة بقيت تلازمني منذ نصف قرن أو أكثر، وحين أستدعي رائحتها تحضر مثل المرأة في الموعد الأول للحب. ليس بعدها ولا قبلها كأنها السر، وكأني الطائر الذي أضاع الطريق إليها.
1260BCD6-2D38-492A-AE27-67D63C5FC081
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد