حين اندلقت القهوة

حين اندلقت القهوة

08 ابريل 2019

(Getty)

+ الخط -
ما حدث، أيتها السيدة المتعبة، ليس مأساويا إلى هذا الحد. ليس آخر الدنيا، والأرض ما زالت تواصل دورانها الاعتيادي. السماء كذلك في موقعها الدائم، ولم تنهدم فوق رأسك. كل ما في الأمر أن كأس القهوة الورقية اندلقت فوق كمبيوترك، وأنت تتصفحين المواقع الإخبارية التي لا تأتي بشيءٍ يسر الخاطر. لو أنك لا تحبين المطر إلى هذه الدرجة، لما حانت منك التفاتة خاطفة إلى النافذه المضببة في المقهى الصغير، لظلت الكأس ثابتة في مكانها. لكن لا يمكن لامرأةٍ قلقة كثيرة التلفت والحركة مثلك أن تجلس بثباتٍ، ولو قليلا. لم يكن من الضروري أن تردّي على تحية الصباح من النادل الودود ما أفقدك تركيزك. في تلك اللحظة، اندلقت القهوة على لوحة الأزرار. من حسن الطالع أنها كانت بلا سكر، وإلا لواجه الفني المختص مشكلة الدبق العالق أيضا. يقولون إن دلق القهوة بشارة خير. ولكن أي خير يرتجى من مأزق كهذا، وقد انعطب الكمبيوتر الفصيح، وسدت نافذته الشاسعة التي تجعلك متصلة بالعالم، تراسلين الأصدقاء في بلاد بعيدة، ويصل إليك الرد قبل أن يرتد إليك طرفك تشاهدين أحدث الأفلام، تطلعين على حالة الطقس وأسعار العملة، وأي معلومة مهما كانت غريبة قد تخطر على بالك. حياة غنية حافلة بالمعرفة المتدفقة بلا توقف، غير أن صندوق العجائب الذي لا يفارقك تحول، في لحظةٍ، إلى مجرد قطعة حديدة باردة صماء. 
وعلى الرغم من ذلك، ليس ثمّة ضرورة لنوبة الهلع التي أصابتك، وجعلت رواد المقهى القلائل يتركون كمبيوتراتهم المفتوحة، ويهرعون إلى إنقاذ كمبيوترك، ويقدمون لك النصائح عن ضرورة الذهاب إلى أقرب محل تصليح، قبل أن يتفاقم الوضع. سارع أحدهم إلى نزع البطارية، في محاولة للحد من الخسائر المتوقعة، واقترح عليك وضع الكمبيوتر المصاب بالمقلوب، كي تنزل بقايا قطرات القهوة، كما أكدت أخرى أن مجفّف الشعر كفيل بحل المسألة بحسب خبرتها. يُحضر النادل اللطيف كوب قهوة جديدا مؤكدا أنه على حساب المقهى، من باب التعويض والمواساة. ويطلب منك الابتعاد، كي يتمكن من تنظيف الطاولة. تجلسين في زاوية بعيدة، تتأملين الوجوه التي توارت من جديد خلف الكمبيوترات، استولى عليك إحساس بالتخفف لإدراكك أنك ما عدت مرئية، وكل من حولك غائب وبعيد. تلاحظين، للمرة الأولى، على الرغم من تردّدك على المكان منذ سنوات، اللوحات الجميلة المعلقة، وتنتبهين إلى لون الجدران المائل إلى الأرجواني.
يصبح صوت المطر أكثر وضوحا، تغادر التعابير الإنسانية الوجوه لتصبح مجرّد روبوتات مستغرقة في عوالمها المنعزلة، يذهبون في غيبوبة متقطعة، قد يستيقظون منها إثر مشهدٍ غير متوقع، مثل اندلاق فنجان قهوة مفاجئ، يقطع عليهم استغراقهم العميق، غير أنهم يرتدون إلى قوقعاتهم الحصينة، يرعبك أنك كنت، قبل دقائق، جزءا من هذا المشهد المريع. الكمبيوتر ما زال مقلوبا على وجهه، تحدقين في الساعة المعلقة أمامك، بانتظار موعد بدء دوام محل صيانة أجهزة الكمبيوتر المجاور. يتسلل الضجر إلى قلبك. تكتشفين أن ثمة كتبا مصفوفة على الأرفف على سبيل الديكور. الجميع مستغرقٌ في غيبوبة الافتراض، غير مدرك مقدار العزلة التي أحكمت قيدها على الأرواح.
تنهضين بحماسةٍ باتجاه المحل، وقد فتح أبوابه أخيرا. يبقر الفني الشاب بطن الجهاز، مبعثرا محتوياته أمامك، تلاحقين تعابير وجهه الجدّية بجزع. يبدو مثل طبيب قلبٍ متمكّن من أدواته. يشرح لك باقتضاب مدى حساسية هذه الأجهزة، وأهمية التعامل معها بحذر بالغ، يطمئنك أنه سوف ينجو، ولكنه يحتاج الوقت والصبر والتأنّي، للحصول على أفضل النتائج. تغادرين مرغمة. يعاودك الهلع مثل أم تركت وحيدها بين غرباء، تحاصرك الهواجس، وتبدأين بعد الساعات إلى حين لقاء مرتقب، يجمعك وصغيرك الحديدي الهش سريع العطب، غير القادر، على الرغم من كل ذلك الطغيان والجبروت، على التصدي لكوب قهوة تافه عديم القيمة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.