الموت بإخلاص

الموت بإخلاص

07 ابريل 2019
+ الخط -
مات بإخلاص الممثل السوري فواز جدوع في أثناء تأديته دور الميت في مسلسل يجري تصويره حاليًّا في اللاذقية، أعني مات فعليًّا؛ لأنه أراد أن يبدو المشهد حقيقيًّا هذه المرة، وليس تمثيلًا.
على فواز جدوع الرحمة، أولًا، وهذا ما يهم في الخبر. أما الدهشة التي حاولوا فيها تغليف الخبر فلم تستوقفني، ألبتة؛ لأنني من الموقنين بأن العرب تجاوزوا، منذ أمد بعيد، تلك الشعرة الدقيقة الفاصلة بين الشيء ونقيضه، سواء أكانت شعرة فاصلة بين التمثيل والواقع، أو بين العقل والجنون، أو غيرهما، بما في ذلك، بالطبع، "شعرة معاوية" التي تحكم علاقة الحاكم بالمحكوم، لأنها شعرةٌ غدت مشدودةً باستمرار، ولا مكان فيها لأدنى "ارتخاء" كما كان يفعل معاوية بن أبي سفيان أحيانًا.
ليس غريبًا أن يموت ممثل عربي في مشهد موت، بل الغريب، فعلًا، أن لا يموت؛ لأن الموت غدا "دورًا" رئيسيًّا في الحياة العربية، يستطيع تأديته أي مواطن عربيّ، من "البروفة" الأولى، ومن دون حاجةٍ إلى "سيناريوهات" ومخرجين ومنتجين حتى، فثمة كثيرون من هؤلاء بين ظهرانينا على أرض الواقع، يؤلفون وينتجون ويخرجون مشاهد الموت باقتدارٍ يحسُده عليهم عزرائيل ذاته.
من هؤلاء، مثلًا، مؤلفان، عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد، برعا في كتابة مسلسلات الموت في بلديهما، وتركا المونتاج والإخراج لعسكرهما. ومنهم الداعشيون، كذلك، تفننوا في إخراج مشاهد الذبح والحرق والبتر، على نحو سينمائيّ يعجز عنه أعتى مخرجي أفلام الرعب، لكن الأمر الذي لم يتنبّه إليه كثيرون أن "الممثلين" العرب في تلك المشاهد كانوا يموتون سريعًا، وربما قبل بلوغ السيف حدّ العنق، وكأنهم مدرّبون جيدًا على الموت، حتى قبل أن يواتيهم الأجل، بل يحتفون به كملاذ من حياة كانت عليهم أقسى من الموت. ومنهم من يحتفل بالموت، على غرار نماذج من أناسٍ قرّروا أن يمضوا بقية حياتهم بجوار قبورهم إلى أن يحين أجلهم، وكأنهم يتعجلون الموت، ولا يعنيهم أن يزرعوا "فسيلة" على أرض الحياة قبل موتهم.
ولكي نكون منصفين، يتعيّن أن نعترف أن الطغاة يمكن أن يموتوا إذا قيّض لهم أن يؤدوا مشهد موت، فقد حدّثتني نفسي بروايةٍ عن أحدٍ من هؤلاء الطغاة الذي لم يكن يطربه في حياته سوى هدير الهتافات التي كانت تنادي بحياته، وفي مقدمتها بالطبع: "بالروح بالدم نفديك يا زعيم"، ولم يكن يشعر أبدًا أن هذه الهتافات تنطلق من حناجر "ممثلين"، بل من شعبٍ مستعدّ، فعلًا، لتطبيق الشعار على أرض الواقع، عند أول محك.
وقد لازمه هذا اليقين، إلى أن أيقظه من سباته رجلٌ صادق من بطانته، تجرّأ واقترح عليه أن يؤدي دورًا يزعم فيه أنه على وشك الموت، وبأن إنقاذه لن يتحقّق إلا إذا تبرع له الشعب بدمه وحياته كما يدّعي ليل نهار.
في المحصلة، اقتنع الزعيم بتأدية هذا الدور، فرتّب مشهدًا تمثيليًّا يكون فيه راقدًا في المستشفى، وجعل تلفازه الرسمي يعلن أن الزعيم مريض، ويحتاج لمن يفديه ولو بيوم واحد من حياته، لكن بلا جدوى، إذ لم يتبرّع أي مواطن، ولو بساعة واحدة، للزعيم الذي عانى صدمةً مفرطةً بعد ذلك، أودت بحياته، ومات فعليًّا على سرير المستشفى الذي أدى الدور "التمثيلي" عليه.
في المقابل، لنتخيّل لو طلب من الممثل الراحل، فواز جدوع، أن يؤدي دور "الحيّ" بإخلاص، هل كان سينجح؟ أغلب الظن أن "لا"، فهذا هو الشيء الوحيد الذي لا يتقنه المواطن العربي، خلافًا لعبارة محمود درويش: "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا"، فهي عبارة ماكرة من شاعرٍ كان يدرك، جيدًا، أن "كل الطرق العربية لا تؤدي إلى روما .. بل إلى نيرون"، ولا مسافة حقيقية بين مهد الإنسان العربيّ ولحده، ولو حتى من باب "التمثيل".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.