هل الإعلام مُدانٌ حتماً؟

هل الإعلام مُدانٌ حتماً؟

07 ابريل 2019
+ الخط -
يحلو أحياناً لمن يعيش في دولٍ قمعيةٍ لا تعرف حرية الصحافة إليها مسرباً، ولا يمكن لرعاياها المحرومين من المواطنة أن يجدوا منبراً يُتيح لهم التعبير بحريةٍ عن آرائهم، أن يُشيرَ، وبحزمٍ وجزمٍ، إلى أن الصحافة الغربية ليست حرة، وغير مستقلة، وبعيدة عن الحيادية. ويتقاسم الرعايا مع الراعي، أحياناً، هذا الموقف لأسبابٍ متناقضة، ولكنها تصل بهم إلى النتيجة نفسها، فهو القبول بالحرمان من التعبير والتأقلم معه من جهة الرعية، وهو إبرازٌ لموقفٍ يُبرّئ من تهمة ممارسة الحجب والتعتيم والقمع لصالح الراعي. كما ساهمت الأحزاب العقائدية التي هيمنت على الساحة الحاكمة، كما المعارضة، في البلدان العربية، في إبداء الحذر الدائم والتشكيك بكل أداء الإعلام الغربي "الإمبريالي"، والذي، إن لم يكن خاضعاً لمجموعات ضغط سياسية، يُستحسن أن تكون يهودية الصبغة، فهو بالتأكيد خاضعٌ لأجندات رجال أعمال كبار ينتمون إلى ما تعرف بالشركات العابرة للجنسيات التي تأكل الأخضر واليابس في الدول النامية.
وبالتالي، يجد الطرفان أن الحديث عن الحريات الصحافية في الغرب ليس إلا ذرّاً للرماد في العيون، وإعجاباً رخيصاً بالمستعمر القديم / الحديث، فيتساءل أشدّهم فطنة، وهو شبه مستهزئ بسذاجة المُعْجَب بهذه الصحافة، وعملها وتأثيرها، عما إذا كان لهذه الصحافة التي "تُبْهِرْ" الساذج إياه، أن تنتقد إسرائيل أو مصالح الشركات الكبرى الاقتصادية والمالية؟ من السهل أن يُجيب المتابع الفطن على هذا التساؤل البافلوفي، من خلال استعراض محطات مهمةٍ في تاريخ حرية التعبير في الغرب "الإمبريالي"، والتي أودت بحكومات، وأقالت رؤساء، ودفعت وزراء إلى الانتحار. ولكن، من الصعب بمكان أن يُقْنِعَ السائل البافلوفي الذي تمّت برمجته بأدواتٍ بائدةٍ على وجود المؤامرة في كل زوايا المكان والزمان.
صحيفة ليبراسيون (التحرير) الشهيرة، والمقرّبة من اليسار الفرنسي الوسطي، والتي تأسست سنة 1973 تحت إشراف الفيلسوف جان بول سارتر، تناقلت ملكيتها عدة جهات، فبعد أن 
انطلقت بإمكاناتٍ مالية متواضعة وتشاركية، جمعها آباؤها الروحيون، الفاعلون الأساسيون في ثورة أيار/مايو 1968، بدأت رؤوس الأموال تشتريها، لتصل اليوم، في جزء مهمٍ من أسهمها، إلى مالك أكبر شركات الاتصال الفرنسية الذي يملك أيضاً مجموعة من المؤسسات الإعلامية الأخرى.
في كل صحيفة أو وسيلة إعلامية فرنسية، هناك "مجموعة المحرّرين" التي لا علاقة لها بالممول وبالإدارة، وتتألف من الصحافيين العاملين في المؤسسة، تسهر على استقلالية الصحافيين في عملهم. وفي الأسابيع الأخيرة، دانت هذه المجموعة التي تمثل محرري "ليبراسيون"، وفي بيان شديد اللهجة، تم نشره في الصحيفة نفسها، قبول الإدارة أموالا دفعتها دولة الغابون (غير الديمقراطية) للمساعدة في تنظيم ندوة سياسية دولية، استضافتها عاصمتها سنة 2015، على الرغم من أن الصحيفة كانت تمر بوضع اقتصادي صعب، قبل أن يضخّ فيها المالك الجديد المال. وقال الصحافيون إن الإدارة "خانتهم"، وقبلت هذا التمويل في عملية غير شفافة، ولا تحترم التزام الصحيفة بالوقوف إلى جانب المسألة الديمقراطية. ووصل الأمر بالصحافيين إلى الاقتراب من طلب استقالة مدير المؤسسة والصحافي الرئيسي فيها، إلا أنها عدلت عن هذا الحد الأقصى، مستندة إلى دوره التحريري المهم، وإلى عدم ضلوعه مباشرة، على الرغم من علمه، في العملية المالية المشبوهة. وقد قرّر الصحافيون استعادة المبلغ من صندوق المؤسسة، وذلك، ليس بهدف إعادته إلى المصدر، بل لتخصيصه من أجل تكوين صحافيين في الدول الأفريقية، ومساعدة منظمات أهلية تُعنى بحرية التعبير.
في المقابل، نشرت الإدارة إلى جانب بيان الصحافيين تبريرها المُفصّل، من دون السعي إلى تبرئة الذات، مُدلّلة على حسن النية بأن الندوة الدولية أتاحت الفرصة لجميع الآراء في أن تُناقش، وأعطت منبراً نادراً للمعارضة الغابونية، لكي تدلي بدلوها. كما تمت الإشارة إلى مشاركة منظماتٍ دوليةٍ، تعنى بحرية التعبير في تنظيم الحدث. واعترف بيان الإدارة بالتالي ببعض الهنات في التصرف، وبعض سوء التقدير، عارضاً تحمّل كامل المسؤولية، مع الإشارة إلى استقالة المدير المالي الذي كان مسؤولاً حينها عن ترتيب هذه "الصفقة".
في المحصلة، ينظر القضاء المالي في شرعية هذا التمويل، ويضع الصحافيون الإدارة أمام 
مسؤولياتها، داعين إلى ضرورة ضم عضو منهم إلى مجلس الإدارة، بحيث يكون العين الساهرة على احترام الاستقلالية والالتزام بالشفافية، وتقوم الإدارة بتوضيح موقفها، وتتقدم باعتذار واضح، واضعةً نفسها تحت تصرف الصحافيين. أما المالك، فيبدو أن لا دور له ألبتة، وقد نوّه الطرفان، الإدارة كما الصحافيون، إلى وجوب بقائه خارج الموضوع، التزاماً منه بتعهده في أثناء الشراء، والذي ينصّ على احترام استقلالية العمل.
تمر الصحيفة المركزية الثالثة في فرنسا في خضم تجربة قاسية، ربما تُطيح أسماء كبيرة فيها، على الرغم من سعي الجميع إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن "مجموعة المحرّرين" تقوم بدورها "الرقابي" على شفافية الأداء، لما فيه استدامة لتقاليد صحافية، من الصعب أن يؤثّر فيها صاحب رأس المال، أو صاحب الإرادة السياسية المهيمنة. إنها خيبة كبرى لأصحاب القوالب الجاهزة في توصيف الإعلام الغربي.