حدث عند نصب الشهيد...

حدث عند نصب الشهيد...

06 ابريل 2019
+ الخط -
درجت الدول التي تحترم ذاتها وذويها على تخليد رموزها، عبر إقامة نصب تذكارية لهم. ولا شك أن الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الوطن ومبادئه، هم أعلى مكانة ورفعة من غيرهم، وفي ذلك دلالة تتعلق بمدى تقدير واعتزاز تلك الدول بتضحيات أبنائها.
لكن الأمر في عراق ما بعد 2003 يبدو مختلفاً تماماً عن هذه المبادئ والقيم، إذ تعرّض، ولا يزال نصب الشهيد الذي يعد أحد أكبر المعالم المعمارية في بغداد، كونه يرمز إلى الشهيد الذي قدّم روحه فداء دفاعاً عن العراق، خلال الحرب التي فرضتها إيران في ثمانينيات القرن الماضي، إلى أبشع أنواع الاستخفاف بقيمة الشهداء. ففي عام 2015 حاولت حكومة حيدر العبادي إزالة النصب، زاعمة أنه من عمل النظام السابق. لكن محاولتها باءت بالفشل، بعد أن تصدى مثقفو العراق لها، لسبب بسيط، هو أن النصب أكبر من كل الحكومات والأحزاب والألقاب، كلهم زائلون وهو الباقي. واستمراراً في هذا الاستهداف، برزت ظاهرة، جديدة وغريبة، خلال الأيام الماضية، تمثلت برقص وغناء في حرمة نصب الشهيد، من قبل إحدى الفرق الموسيقية. وهذا ما أثار موجة استنكار واسعة من معظم العراقيين الغيورين على دماء أخوانهم التي خضبت تراب الوطن دفاعاً عنه خلال حرب ضروس، لجمت حينها المشروع الإيراني الهادف إلى التمدد في المنطقة.
ولم يأت هذا الاستنكار عن فراغ، فالعراقيون يدركون أن نصب الشهيد الذي ينتمي لكل العراقيين، هو المعنى الأقدس في وجدانهم، ووقفوا أمامه خشوعاً ومهابة، فثمة أرواح أزهقت بسخاء دفاعاً عن الوطن، وهذا موروثٌ تربوا عليه، ودأبت الزعامات السياسية على مر العقود واضعة أكاليل الزهور عبر مراسم تأبينية رسمية في إحياء المناسبات التي تستذكر الشهيد العراقي.
تعد هذه الممارسات إهانة لرموز وطنية واستخفافاً بقيمة الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم دفاعاً عن البلد في الحرب الإيرانية العراقية. وإلا بماذا يفسر السماح بالرقص والغناء في حرمة النصب الذي أقيم على رفات شهداء حقيقيين؟ هل السبب قتالهم ضد إيران، وتضحيتهم بأرواحهم من أجل العراق، أم هي عقدة نقص تجاه أي روح عراقية طاهرة، كما تساءل بعضهم.
صحيح أن حضارة العراق ضاربة في عمق التاريخ، لكن هذا لا يعني السماح بالغناء في كل مكان، فلهذا النوع من الفن أماكنه المخصصة، كالملاهي والمراقص وليس نصب الشهيد، وكان على الجهات المعنية مراعاة ذلك، لأن أغلب العراقيين يقدسون هذا المكان الذي يشتمل على أسماء الشهداء الذين سقطوا من أجل الوطن.
هذا لم يحصل على ما يبدو عن جهل أو خطأ، كما بررت الجهة المعنية، بل يتوافق تماماً مع هجوم ساسة العراق الحاليين على الثقافة العراقية، بشقيها الفني والقيمي، الذي يستند على اتجاهين، أحدهما طائفي، تمثل بمطالبة تغيير اسم شارع الرشيد تارة، وإزالة تمثال أبي جعفر المنصور، بزعم عدائهما آل البيت تارة أخرى، وهذا محض افتراء، والاتجاه الآخر تبعي لإرضاء إيران بمحو كل ما هو متعلق بحرب الثماني سنوات، تحت عكازات النظام السابق، من أجل تدمير كل ما يتعلق بالذاكرة العراقية وإرثها العميق. لذلك، يجب عدم الاكتفاء بموقف المتفرج إزاء هذه النوايا والتخرصات التي تستهدف تاريخ العراق الثقافي والقيمي، ذلك أنّ هذه الشواخص المهمة حفرت عميقاً في ذاكرة المجتمع العراقي، وأسهمت بتأسيس أعمال فنية، ليس على مستوى عطاءات الفنون في العراق فحسب، بل وعلى صعيد العالم أيضاً.
B87A50A6-EB76-4C1C-BAEE-0DF0554A6A9A
B87A50A6-EB76-4C1C-BAEE-0DF0554A6A9A
عامر السامرائي (العراق)
عامر السامرائي (العراق)