الجيل المحظوظ

الجيل المحظوظ

06 ابريل 2019
+ الخط -
الجيل الذي استنشق عبير الحِبر على أوراق رسائل الغرام والاطمئنان إلى الأقارب والأحباب، ويكتب على المظروف "شكراً" لساعي البريد، ثم أدرك الهاتف في دوار العمدة إن كان من الريف، أو في شقة أو اثنتين، من شقق الجيران في المدن. الجيل الذي كان يقف في الأعياد والمناسبات في طابور السنترال، ينتظر دوره في خلوّ الكابينة ليحظى بدقائق إن أسعفته جودة الخطوط الهاتفية ليبلغ سلامه وأشواقه للأحبة، ثم يخرج منها بين مبتسم بعد الاطمئنان إلى الأهل والأحباب، أو كاسف البال من لوعة الفراق. هذا الجيل دار به الزمن، وأصابته الدهشة وهو يرى جهازاً اسمه "الفاكس" يضع فيه الرسالة الورقية، ثم يدق على أرقام في لوحة الأرقام فتخرج من جهاز آخر في مكان آخر في اللحظة نفسها، ثم أدرك "البريد الإلكتروني"، ثم ضم العالم كله بين يديه وطوى المسافات بين أقطار الأرض، من خلال جهاز بين يديه يسمونه "الهاتف الذكي".
محظوظ ذلك الجيل الذي انطلق في الشوارع والحارات، يمارس مع الأحباب والأصدقاء الألعاب الجماعية، ويجتمع معهم في المساء في جلسات السمر، قبل أن يرى أبناءه في عزلة طوعية بين أربعة جدران يمارسون الألعاب الإلكترونية.
محظوظ ذلك الجيل الذي تعرف إلى أخبار العالم وفنونه من خلال "المذياع"، واتسع خياله خلف الدراما وبرامج الأطفال، وتعلقت آذانه بسماع أذان الشيخ رفعت قبل الإفطار، ثم أدرك ذلك الاختراع العجيب الذي يسمونه "تلفزيون"، الذي حول الخيال المسموع إلى صورة مرئية، واجتمع مع الجيران في أول بيت يدخله التلفزيون، ليتشاركوا الدهشة والمتعة.
محظوظ ذلك الجيل الذي شرب الماء البارد من ذلك الوعاء الفخاري المزركش، والممتد في عمق التاريخ امتداد الطين في الأرض المسمى "القُلَّة"، ثم أدرك جهازاً كهربائياً يسمونه "الثلاجة"، بدأ في بيت واحد من الجيران، يلتفون حوله قبيل الإفطار في رمضان ليأخذوا حصتهم من الثلج في حرّ الصيف. محظوظ أنا ابن هذا الجيل، الذي كانت والدتي كثيراً ما تُغْلِق باب شقتنا وتنسى المفتاح في الداخل، ثم تقول لي: لا تقلق؛ فمفتاح جارتنا أم مشمش، وجارتنا أم سعيد، مفتاح بيتنا نفسه. يا ابني: البيت كله أسرة واحدة.
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
محمود صقر
كاتب مصري.
محمود صقر