نحن والسياسة بالمعنى الحديث

نحن والسياسة بالمعنى الحديث

01 مايو 2019
+ الخط -
تعيش بلداننا العربية في الزمن الحاضر نظرياً، لكننا لا نستخدم أدوات العالم الحديث لبناء حياتنا التي تقع في الزمن الراهن، ولكنها، من زاوية أدوات العيش والعلاقات الاجتماعية والسياسية، تقع في زمن بائد. وإذا كان صحيحا أن هذه البلدان تستخدم أدوات القمع الحديثة، إلا أنها تستخدمها لتكريس سلطات تجاوزها الزمن. وممارسة السياسة في البلدان العربية نموذج فج لهذا التناقض الظاهر في العيش في العالم الحديث لتكريس مفاهيم ومعانٍ قديمة. عندنا أحزاب سياسية، وبالتدقيق نكتشف أننا أمام قبائل وليست أحزاباً، وبالتالي يحمل هذا الإطار الفضفاض الذي اسمه "حزب" في العالم العربي كل أمراض المنطقة القبلية والجهوية والمناطقية، ويمكن إعادتها، في كل الأحوال، إلى علاقة الراعي بالرعية، وليس علاقة القائد السياسي بالمواطن، كما هي الصيغة الحديثة للعلاقة بين المواطنين بالسياسة وبالسياسيين والأحزاب.
يحدد ماكس فيبر، في مقاله المهم والقصير "السياسة موهبةً"، ثلاث صفات على السياسي أن يتحلى بها، وهي تتناقض، على طول الخط، مع صورة السياسي في العالم العربي، كما سادت في العقود الأربعة المنصرمة: الشغف، والشعور بالمسؤولية (البعد الأخلاقي للسياسة)، والتقدير. الشغف المقصود هو شغفٌ في سبيل الموضوعية، إنه الاستسلام الشغوف لقضية ما. الشغفُ لا يصنع رجل السياسة، إلا إذا كان شغفاً بقضية، يصنع من المسؤولية تجاه هذه القضية بذاتها النجم الذي يُستضاء به ويُهتدى في كل عمل، بمعنى أن السياسي يعيش من أجل القضية، لا يعيش منها. علاوة على ذلك، لا بد أن تتوفر في السياسي خصلة نفسانية حاسمة أخرى، هي التقدير، بمعنى الانفصال العاطفي. ويعني القدرة على جعل الوقائع تؤثر فينا ونحن هادئون مالكون أنفسنا، هي الترفع عن الأشياء والأشخاص. افتقار السياسي إلى القدرة على الترفع هو، في حد ذاته، خطيئة مهلكة، فالمشكلة هي كيفية الجمع بين الشغف الحار والتقدير البارد معاً؟
وحسب فيبر، تخرج السياسة من الرأس، لا من أي جزء آخر من أجزاء الجسم الإنساني أو 
الروح الإنسانية. ومن الممكن أن تتولد كلف إضافية للسياسة، لو كانت مسلكاً إنسانياً خالصاً، بعيداً عن الشغف. التحكّم الصارم في النفس الذي يميز السياسي الشغوف، ويفرق بينه وبين هاوي السياسة الذي ينفعل انفعالاً عقيماً، لا يتأتى إلا نتيجة للتعود على الترفع بكل ما في الكلمة من معانٍ، وليس الانغماس في الصغائر. تعني قوة الشخصية السياسية، أولا وقبل كل شيء، أن يكون الإنسان متصفاً بهذه الصفات.
الغرور هو العدو اللدود للسياسي. لذلك، ينبغي عليه أن يقهره كل يوم وكل ساعة، لأن هذا العدو الدنيء يتربص بالسياسي طوال الوقت. وهو العدو اللدود لكل اندماج موضوعي، ولكل ترفع عن الصغائر. يقول فيبر إن ميدان السياسة يعرف نوعين من الخطايا المهلكة: الأولى هي اللاموضوعية التي كثيراً، وليس دائماً، ما تتطابق مع الخطيئة الثانية، وهي اللامسؤولية. الغرور، وهو الحاجة إلى الظهور في المقدمة كلما أمكن، يُعرّض السياسي لغواية ارتكاب واحدةٍ من الخطيئتين، أو ارتكابهما معاً. وبقدر ما يهتم المهرّج السياسي بالتأثير الذي عليه أن يُحدثه، يعرّض نفسَه، لهذا السبب، إلى خطرٍ دائم، هو خطر التحول إلى ممثل، والاستخفاف بالمسؤولية بالنسبة لنتائج أفعاله، والاهتمام بشيء واحد، هو التأثير الذي يُحدثه. لا موضوعيته تغريه بأن يسعى إلى المظهر البرّاق للسلطة، بدلاً من السعي إلى السلطة الواقعية الحقيقية. أما لامسؤوليته، فتغريه بالتمتع بالسلطة في ذاتها، من دون ما هدف من ناحية المضمون. ونظراً إلى أن السلطة هي الوسيلة التي لا مناص عنها للسياسة، فليس هناك تشويهٌ للقوة السياسية يُحدث من التلف أكثر مما يُحدثُه التفاخر الوصولي بالسلطة، والاندماج المغرور في الإحساس بالسلطة. وبصفة عامة، عبادة السلطة من حيث هي سلطة. أما السياسي الآخذ بمبدأ المسؤولية، فيعمل حساب عيوب الناس، وليس لديه الحق، كما قال فيخته صائباً، في أن يفترض في الناس الخير والكمال، وهو لا يحس أنه في وضعٍ يتيح له أن ينسب نتائج عمله إلى الآخرين. إنه يقول: هذه النتائج هي نتيجة عملي.
ببساطة، السياسة، كما يراها فيبر، ثَقْبٌ بطيءٌ لألواحٍ صلبة، بمثقابٍ هو الشغف والتقدير. 
وهناك أمرٌ صائبٌ كل الصواب، تؤكده كل الخبرات التاريخية، وهو أن الإنسان ما كان ليبلغ الممكن، إن لم تمتد الأيدي في الدنيا، المرّة بعد المرة، نحو المستحيل، ولكن الذي يستطيعُ أن يفعلَ شيئاً من هذا القبيل هو الزعيم، وليس الزعيم فحسب، بل البطل، البطل بالمعنى البسيط.
الخلاصة في ما يقوله فيبر أن السياسة مسؤولية، وليست امتيازاً، نموذجها الذي يحقق أفضل النتائج، هو ذلك الذي يعرف فيه السياسي أنه يعمل عند المواطنين، هو بالتالي النموذج المضاد لحالة السياسة، كما نعرفها في النموذج العربي الذي يصرّ فيه الحاكم أن الشعب يعمل عنده، وليس العكس. وإذا سألنا عن الصفات الثلاث التي على السياسي أن يتصف بها حسب فيبر، الشغف بقضية، والشعور بالمسؤولية، والتقدير، فأين يمكن أن نجد نموذجاً لهذا النوع من السياسيين في العالم العربي، خلال النصف قرن المنصرم؟ وأي سياسي عربي لم يتصف بالغرور، ويدّعي إنجازات ليس لها وجود؟ إنما على العكس مما يدّعي، سياساته جلبت الدمار إلى بلده؟ وأي سياسي عربي وقف يوماً، وقال إنه يتحمل مسؤولية ما وصل إليه الحال في بلده. هذا النموذج غير موجود في العالم العربي، لأن السياسة التي مارسها الاستبداد في المنطقة جاءت في النتائج الكارثية على هذه البلدان، ولكن عند الحديث عن هذه الكوارث والاعتراف بها، يتم الكلام عليها بوصفها مؤامرة خارجية على البلد. وعندما وصلت الأمور إلى ما لا يُطاق، وصرخت الشعوب صرختها الرافضة مزيدا من الإذلال، جاءت هذه الأنظمة بسياسييها لتدّعي أن هذه الثورات مؤامرات على هذه البلدان.
اليوم، وبعد المسار الصعب للثورات العربية، تحتاج دول المنطقة اليوم سياسيين يتصفون بما قال به فيبر: الشغف بقضايا الشعوب وتحمل المسؤولية والتقدير السليم. وهو ما يحتاج ساحة سياسية صحية ديمقراطية، ولا يمكن الإتيان بها في ظل الاستبداد. لذلك لا بد من استكمال مهام الثورات العربية، بالتأكيد المرة بعد المرة، وهي مهام الشعب بوصفه مرجعية كل سياسة وكل سياسي.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.