عن بلاد النساء الجميلات

عن بلاد النساء الجميلات

01 مايو 2019

شابة أوكرانية في مركز اقتراع في كييف (31/3/2019/Getty)

+ الخط -
معظمنا لا يعرف عن أوكرانيا سوى أنها بلاد النساء الجميلات، هذا ما يؤكّده "غوغل" ومواقع التواصل، وكذا مكاتب السياحة التي تروج عربياً السفر إلى هناك، وقد أضفنا إلى معرفتنا تلك معلومةً طازجةً، مفادها بأن ممثلا كوميديا أربعيني العمر، اسمه فلاديمير زيلينسكي (غير اسمه من فلاديمير باللهجة الروسية إلى فولوديمير باللهجة الأوكرانية، بحسب بيان مكتبه في دلالة نكاية بروسيا)، استطاع أن يكسب أكثر من 73% من أصوات الناخبين، ليصبح رئيساً للجمهورية، في لفتة حظٍّ نادرة، وقد يكون تدرب على الرئاسة، عند قيامه بتمثيل دور "الرئيس" في مسلسل "خادم الشعب"، وهو الاسم الذي اختاره لاحقا عنوانا لحزبه السياسي الذي دخل به المعركة الانتخابية، وفاز على منافسه الرئيس السالف، بيترو بوروتشينكو، "ملك الشوكولاته" الذي أقر بهزيمته، وهنأ زيلينسكي بالفوز، لكنه توقع له الفشل في مهمته، مراهناً على نقص خبرته في شؤون الدولة، وعدم قدرته على مواجهة "الدولة العميقة" التي نشأت في فترة سلفه.
وفي ما يشبه "حربا باردة" للتنافس على مناطق النفوذ، سارع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى تهنئة الرئيس الجديد، ولتأكيد استعداد بلاده للعمل معه، لتعزيز الديمقراطية في أوكرانيا، وثمّن البيت الأبيض "الطبيعة السلمية والديمقراطية" للعملية الانتخابية، فيما تريث الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في التهنئة، وشكك مكتبه في "شرعية الانتخابات"، لكنه، في خطوةٍ بدت مقصودة، أعلن عن تسهيل إجراءات منح الجنسية لسكان مناطق شرق البلاد الذين يدين معظمهم بالولاء لروسيا، ثم عرض الجنسية على جميع الأوكرانيين. ورد الرئيس الأوكراني، واصفاً الخطوة بـ"الاعتداء" على بلاده، قبل أن يعرض بدوره تجنيس كل الروس. هكذا دخلت أوكرانيا، منذ الساعات الأولى لرئاسة زيلينسكي، في خضم الصراع الدولي الذي ينذر بأيام ساخنة قد تمتد إلى مناطق أخرى من العالم.
ما يعنينا هنا ليس جمال نساء أوكرانيا، ولا الحسابات الأميركية أو الروسية بخصوص سياسات زيلينسكي فحسب، إنما أيضا الأمثولة الجديرة بالتأمل والاقتداء التي جسّدها بوروتشينكو نفسه في إشرافه النزيه والشفاف على سير الانتخابات التي أطاحته أخيراً. وكان في وسعه أن يجيرها لصالحه، كما فعل ويفعل عادة الرؤساء العرب الذين يكيفون كل شيء، ويفعلون كل ما يمكنهم لضمان فوزهم على منافسيهم، حتى لو أدى ذلك إلى تغيير القوانين أو الدساتير التي 
يُفترض أنهم يعملون بها، وجديد ذلك ما فعله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، من أجل بقائه على مقعد الرئاسة مدى الحياة. ثم... هل تتذكّرون ما جرى في سورية بعد رحيل الأسد الأب، أو ما كان يريد أن يفعله عبد العزيز بوتفليقة في الجزائر، أو عمر البشير في السودان؟ وهل تتذكّرون قادة آخرين تمسكوا بالكرسي حتى الموت، وقد خططوا لأن يورثوه لأبنائهم من بعدهم، ثم رحلوا غير مأسوف عليهم؟
لم يفكر بوروتشينكو بأن يتجاهل إرادة الناخبين في اختيارهم ممثلا شابا لا صلة له بالسياسة، ولا يفقه في شؤون الحكم، كما لم يفكر في أن يوعز لحرسه الوطني الذي أنشأه من قبل، ويدين له بالولاء، للسيطرة على صناديق الانتخابات والتلاعب بها. ولم يخطر في ذهنه أن يوزّع الأراضي على الفلاحين، والعقود على رجال الأعمال، كي يعطوه أصواتهم. لقد آمن بأن شعبه يريد التغيير، ولأن غيره قد يكون قادراً على فعل ذلك، حتى لو كان ممثلا كوميديا، فعليه أن ينصاع لإرادة شعبه، وهذا ما فعله. وقبل ذلك، كان بإمكانه أن يحكم بيدٍ من حديد، وأن يستلهم ميراث بلاده في ظل الحقبة السوفياتية، ويتعلم شيئا من خصال ستالين مثلا، لكنه على العكس سعى إلى إشاعة الديمقراطية والاختيار الحر، وفضّل أن ينصرف، وإن حمل في أعماقه حلم العودة إلى السلطة.
ندرك نحن أن من السذاجة الاعتقاد بأن رجال الحكم في بلداننا سوف يستفيدون من أمثولة بوروتشينكو، بل إنهم قد يسخرون من مطالبتنا لهم بأن يكونوا مثله، وخصوصا أنهم عادة ما يُصابون بالعمى والصمم، عندما يجلسون على كراسي السلطة، فلا يرون مواطنيهم إلا من خلال نظارات سود، ويكفون عن الإنصات لأصواتهم وتطلعاتهم، إلا عندما تدور الدوائر، ويساقون إلى القبر مرغمين! لذلك سوف تظل بلداننا تمثل النقيض العملي لأوكرانيا، ولسوف يظل المواطن العربي المغلوب على أمره يتطلع إلى حال أكثر ديمقراطية، حيث تجري انتخابات نزيهة وشفافة، يكون التصويت فيها حقا طبيعيا له، ويتم تبادل السلطة على وفق حسابات الصندوق، وإلى أن يحل ذلك اليوم، يكفي مواطننا أن يحيا متعة الحلم.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"