عن الثورات العربية وغياب المشروع السعودي

عن الثورات العربية وغياب المشروع السعودي

29 ابريل 2019
+ الخط -
بعد مرور قرابة عامين على تولّي محمد بن سلمان ولاية العهد في السعودية، لا تزال بلاده تعاني أزماتٍ داخلية وخارجية متداخلة، ما يطرح أسئلةً عن حصاد سياساته، وما إذا كانت تنطوي على "رؤيةٍ استراتيجية"، أو تعكس إرهاصات "مشروع وطني"، لكيلا نقول "مشروعاً عربياً/ إقليمياً متكاملاً أو ناجزاً"، يقوم على تحقيق المصالح الوطنية ودرء المخاطر المحدقة بالبلاد، سواء بالاعتماد على القدرات الذاتية السعودية، أم عبر تحالفاتٍ عربية وإقليمية ودولية سليمة، تتجاوب مع مستجدّات "المرحلة الانتقالية" في النظامين، الإقليمي والدولي. 
صحيحٌ أن غياب "المشروع السعودي" أمرٌ قديم نسبياً، بيد أن تداعياته أصبحت تزداد وضوحاً بسبب طبيعة الموقف "المعادي" الذي اتخذته الرياض من الموجة الأولى من الثورات العربية عام 2011، والذي يكاد أن يتكرّر اليوم في الموقف من الاحتجاجات في السودان والجزائر، والتي نجحت ربيع 2019 في إسقاط رئيسي الدولتين، وسط حالة حراكٍ تنذر بميلاد موجةٍ ثانية من الثورات العربية، في إطار صراع طويل مع محور الثورات المضادة الذي انتعشت سياساته مجدداً بسبب وجود الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض.
لا يمكن إنكار أن الرياض تحوز قدراتٍ مالية/ إعلامية/ رمزية، تمكّنها من بعض التأثير على 
دول الثورات العربية، بيد أن الإشكالية تكمن في تعمّد توظيف هذه القدرات لمحاصرة هذه الدول اقتصادياً، والتحكّم في مساراتها السياسية، عبر الالتفاف على إرادة الشباب الثوري وقوى التغيير السلمي والديمقراطي، أياً كان انتماؤها الفكري/ الأيديولوجي، تحت زعم "مكافحة الإرهاب"، وبهدف التقرب من السياسات الأميركية/ الإسرائيلية.
هل يغيب عن السعودية فهم وإدراك انعكاسات إفشال حراك الشعوب وإجهاض آمالها على الداخل السعودي نفسه، خصوصاً في حال فتح باب التطبيع مع إسرائيل، والذي ربما يمكّنها أن تصبح الفاعل الأهم في النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط، في ظل أمرين؛ غياب الفاعل العربي و"غياب المشروع العربي"، بعد إجهاض الموجة الأولى من الثورات، والآخر الضغوط الاقتصادية/ السياسية الشديدة التي يتعرّض لها المشروعان الإقليميان، الإيراني والتركي، على الرغم من التأكيد أنهما يتحرّكان من منطلقات وطنية/ قومية، لا تتطابق مع المصالح العربية بالضرورة.
ربما لم تدرك النخبة السياسية السعودية بعد أن العالم العربي يمر بـ"مرحلة انتقالية" سوف تكشف عن تغييراتٍ عميقة مقبلة، وهي تتواكب مع ظواهر مماثلة على الصعيدين، الإقليمي والدولي. ولذا يصعب على الرياض، وإن حاولت، وقف هذا المسار العربي، لأنها تزيد من كلفة التغيير من دون أن تمنعه، وتسعى إلى إحداث انقساماتٍ أكبر في الدول العربية بين الشعوب وأنظمتها، خصوصاً مع الجيوش والمؤسسات الأمنية، عبر رهان السعودية المتزايد على إحباط المطالب العادلة للشعوب في العيش الكريم والحرية والعدالة، على الرغم من سلمية حراكها ومشروعية مطالبها.
أما تفسير غياب "المشروع السعودي"، وهذا الموقف السلبي من الثورات العربية، فيرجع أساساً إلى أسباب سعودية/ داخلية/ بنيوية، منها احتكار السلطة في أسرة آل سعود (وأخيراً في آل سلمان)، وجمود النظام السياسي وشيخوخته، ورفضه أي معنى من الإصلاح السياسي، وغياب مفهوم المواطنة، والاستمرار في توظيف المؤسسة الدينية الوهابية لإنتاج نمط متكرّر من فقه "الطاعة السياسية" وخطاب "سد الذرائع" و"تجنب الفتنة".. إلخ، وإخفاق الخطط الاقتصادية الخمسية، على الرغم من الوفرة المالية الهائلة التي توفرها الثروة النفطية الكبيرة، وتشجيع ثقافة الاستهلاك في المجتمع، مع العمل على إعادة تقسيمه باستمرار، عبر إذكاء الشروخ المناطقية والقبَلية والطائفية، والسيطرة على المجال العام والفضاء الإعلامي، بامتلاك الصحف والقنوات الفضائية.
وعلى الرغم من أن غياب "المشروع السعودي" أفضى، في العقود الماضية، إلى "تأزيم" الدولة داخلياً وتكريس "هشاشتها" في مواجهة الضغوط الخارجية، الدولية والإقليمية، فإن ثمّة حدثين فارقين أديا، في العامين الماضيين، إلى تشبيك الأزمات السعودية معاً، ما جعلها أكثر خطورةً وربما أقل قابليةً للمعالجة. أحدهما داخلي، ويتعلق بإقصاء محمد بن نايف من منصب 
ولي العهد منتصف 2017، وتولّي محمد بن سلمان المنصب، مع تكشّف نتائج سياسات الأخير الصادمة، في مجالات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية. وعلى الرغم من محاولات بن سلمان ومستشاريه المقربين/ الثقات، خصوصاً سعود القحطاني، في تغطية "غياب المشروع الوطني"، عبر أدوات: الإعلام وجيوش الذباب الإلكتروني، وصك المصطلحات المضلِّلة ("السعودية الجديدة"، و"رؤية 2030" مثلا)، والضخ المالي/ الاستثماري في الاقتصاد الأميركي خدمةً للرئيس ترامب، وفتح قنوات التطبيع مع إسرائيل، والانخراط في تنفيذ "صفقة القرن" لتصفية قضية فلسطين، والإعلان عن تدشين المشروعات السياحية العملاقة "نيوم"، وسياسات الترفيه، والاكتتاب على شركة أرامكو.. إلخ، فإن بن سلمان لا يزال يُواجه تحدياتٍ ومشكلات جمّة قد تفضي إلى فشل طرحه "التحديثي/ التسلطي"، مع تفاقم الأزمات الداخلية والخارجية بسبب الاستبداد الكامن في الطرح، وتجاهل مراكز القوة التقليدية في البلاد (الأسرة الحاكمة، المؤسسة الدينية، القبائل والعشائر الرئيسة، ومجتمع التجار والمال والأعمال)، وسعي بن سلمان إلى بناء علاقة جديدة بين الدولة وشعبها، عبر طرح مفاجئ وسريع وصدامي. والآخر خارجي، ويتعلق باغتيال الصحافي جمال خاشقجي في 2 أكتوبر/تشرين الأول الماضي؛ إذ أعاد هذا الحدث تكثيف الأضواء على سياسات الرياض، سيما النتائج الكارثية للحرب السعودية - الإماراتية على اليمن، فضلًا عن تفاقم سياسة اعتقال الدعاة والمفكرين والخبراء والناشطين الحقوقيين والنسويات السعوديات، ومعارضي سياسات بن سلمان من الأمراء ورجال الأعمال والوزراء السابقين.
ثمّة مؤشرات مهمّة تكشف غياب أي "مشروع سعودي"، ناهيك عن الانخراط المكثّف في 
خطوات "ممنهجة" لتخريب المشروعات الإقليمية المنافسة، الإيرانية والتركية والثورات العربية الجديدة، استناداً إلى إعادة تأكيد تحالف واشنطن- تل أبيب- الرياض، في حقبة "ترامب- نتنياهو- بن سلمان" على أسس مصلحية/ أمنية/ مشخصنة. وبهذا، تكرّر الرياض أخطاء الماضي، من دون أن تبني "مشروعها الوطني" الذي لا يمكن اختزاله في السعي إلى استيراد التقنية أو المفاعلات النووية من "الخارج"؛ فالقضية هي في إعادة بناء الإنسان السعودي، وإطلاق حريته وإبداعه، وامتلاك القدرات العلمية/ التصنيعية، وليس في "استهلاك" منتجات الآخرين، وشراء كل شيء بالمال والصفقات. فإذا قال قائل إن الدبلوماسية السعودية في عهد الملك سلمان تملأ الدنيا ضجيجاً وحركة، فإنها ليست فعالة بسبب "غياب المشروع"، وافتقاد الرسالية والدفاع عن مصالح آل سلمان فقط، وتولي جيل من المستشارين محدود الخبرة والكفاءة.
باختصار، ستجني الرياض نتائج أفضل، ومن بينها تحسين صورة سياساتها عربياً ودولياً، إذا ركّزت على "مسايرة" التغيير العربي والتكيف مع متطلباته عبر بناء "مشروع وطني"، والتخلي عن عرقلة مشروعات الآخرين، فهل هناك من يسمع في السعودية، أم أن "السيف سبق العذل" بالفعل؟
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل