"النبيذة" وصوت الأنوثة الحانق القوي

"النبيذة" وصوت الأنوثة الحانق القوي

29 ابريل 2019
+ الخط -
ما قد يذكّر بمشهد عبقري في فيلم "تايتانيك"، تظهر فيه الناجية الأخيرة روز وقد تجاوزت المائة عام، حين اخترقت الكاميرا نظرة عينها الواهنة، لتتدفق الذكريات وتفيض، وهي تعود بالزمن صبيةً فتيةً متمرّدة، ولتسرد حكاية الغرق الشهيرة، ضمن حيلة إخراجية فائقة الذكاء. وباستخدام تقنية الفلاش باك، تمكّنت الروائية العراقية إنعام كجه جي في روايتها الجديدة، النبيذة (دار الجديد، بيروت 2018)، من توريط القارئ والقبض على انتباهه، واعتقاله رهين الفضول والدهشة، منذ الصفحات الأولى للرواية التي حاولت رسم ملامح الشخصية الرئيسية تاج الملوك، من فراش مرضها بالشيخوخة المتقدّمة، وتوابعها من ضعف وحزن، وطغيان الذكريات الحزينة التي تلتهم ما تبقى من الروح، من سرير المرض في مستشفى باريسي، تطل علينا هذه الشخصية الاستثنائية تاج الملوك، المرأة الجميلة المعذّبة، المختلفة عن السائد والخارجة عنه، المنتهكة طفولتها بتحرّش جنسي من زوج الوالدة، القاضي الشرعي غير الورع، المستمدّة من شخصية حقيقية، أفادت إنعام، في مقابلة صحافية معها، بأنها عرفت هذه الشخصية خمسة عشر عاماً. وأوردت تفاصيل اللقاء، كما جاء في الرواية، مع الشخصية النسائية الثانية، وديان، وهي لا تقل تركيباً وثراءً عن شخصية تاج الملوك، فنانة عازفة كمان متميزة، اضطرت للهرب من بلدها العراق، إثر التعرض لبطش ابن الرئيس الذي تسبب لها ذات نزوة بإعاقة الصمم.
تقوم صداقة عميقة بين السيدتين العراقيتين، على الرغم من فارق السنّ الكبير بينهما، ولكن جمعهما المشترك من واقع الاغتراب والمنفى والحنين، فيحبس القارئ أنفاسه لاهثاً خلف التفاصيل، مأخوذاً في القدرة العالية لدى الروائية على التشويق الرشيق والذكيّ والمتخفف من فائض الثرثرة واللغة الرخوة المفتعلة. أثبتت أنعام تمكّنها ومكرها الروائي، حين ألقت، منذ البداية، بطعم "كي لا نقول قنبلة" قصة محاولة اغتيال أحمد بن بلة، وتورّط تاج الملوك التي تزوجت، في مرحلة ما، عسكرياً فرنسياً، دفعها إلى العمل لصالح الاستخبارات الفرنسية، لتنهال بعد ذلك حياة المرأة القوية الموهوبة ذات العلاقة الإشكالية بالسلطة، وقد صعد نجمها إبّان العهد الملكي، وخفق قلبها بدون جلبة بحب الأمير عبد الإله، الوصي على العرش آنذاك الذي انتبه لها ذات احتفال رسمي، كما ربطتها صداقة، سرعان ما تبدّدت، مع رئيس الوزراء، نوري السعيد، وهي الصحافية المثقفة التي تتقن أكثر من لغة، وتمتاز بصوت عميق ساحر يلمس الروح، حين تشدو المواويل العراقية، المجرّحة بالحنين والحرمان والأسى، تنحدر من أصول إيرانية، برّرت تحرّرها من عبء التقاليد الصارمة التي تحكم المرأة العراقية، حياة غير اعتيادية، حافلة بالتفاصيل المدهشة، تمكّنت إنعام من إتقان دور السارد العليم والمحايد تماماً غير المعني بالأمثولة والدرس الأخلاقي والإدانة، توارت تماماً خلف شخصيات ثلاثٍ تحتل وديان، الفنانة العراقية المهجّرة، حيزاً كافياً يبرّر الغوص عميقاً في المشهد السياسي الملتبس في العراق، مزوّدة بأرشيف من الوثائق التاريخية المهمة، والرسائل العاطفية المتبادلة بين تاج الملوك وحبها المستحيل، الشاب الفلسطيني المقدسي الذي أصبح مستشاراً للرئيس الفنزويلي هوغو شافيز، تمكّنت إنعام من تشييد فضاء روائي متنوّع ومختلف وثريّ.
وعلى الرغم من طغيان الشأن السياسي، إلا أنه يمكن اعتبار "النبيذة" رواية الأنوثة بحق، فصوت المرأة الحانق والقوي والحرّ هو اللافت جداً في هذا العمل. تتداعى تاج الملوك بلا ضوابط، تخترق التابوهات التقليدية، تسلط الضوء على موقف المرأة من الحب والجنس والسياسة، ولا يملك القارئ سوى التأثر والانبهار بتاج الملوك، شابّة ذات سطوة وكبرياء، معشوقة الجميع المرغوبة والمشتهاة والمرفوضة في الحين ذاته، والعاشقة المبتلاة بحبيبٍ، يصغرها سنّاً لا تبيح الحياة لهما إمكانية اللقاء، على الرغم من المشاعر الدافقة عبر السنين. وفي حين يختار العشاق الكهول في رواية ماركيز "الحب في زمن الكوليرا" التحايل على ما تبقى من عمرٍ تبدّد بقرار المضيّ والإبحار هائمين في قارب الكوليرا المنبوذ، والمحظور عليه الاقتراب من الشاطئ.
يهرب العاشق الكهل في "النبيذة" متخفياً من الساحة الباريسية، وقد هاله مشهد العجوز المتهالكة التي صبغت شعرها، خصيصاً للقاءٍ تردّدت كثيراً في قبوله. وفي زمن الاستسهال الحاشد بمدّعي الموهبة الذين لا يتوانون عن إصدار رواياتهم البائسة الضحلة، تظل "النبيذة" رواية نقطة إشراق وتمييز تستحق الاحتفال، بمعزلٍ عن صخب الجوائز. رواية إشكالية، تحتمل مستويات تلقٍّ مختلفة، وتتضمن الكثير من المتعة والتحريض على التأمل في معنى الوجود وجدواه.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.