المعارضة المصرية التقليدية عائقاً أمام التغيير

المعارضة المصرية التقليدية عائقاً أمام التغيير

28 ابريل 2019
+ الخط -
من دروس الانتفاضات الجماهيرية العربية الراهنة أن الجماهير عندما تخرج إلى الشوارع بالملايين، مطالبة بالتغيير، لا تخرج تحت شعارات حزبية، أو أيديولوجية بعينها. بل تتدفق مطالبةً بتغيير النظام، من دون أن يكون في ذلك تلبية لدعوة أيٍّ من قوى المعارضة التقليدية، كالأحزاب أو الجماعات الدينية الرئيسية، والتي عادة ما تفاجئها حركة الجماهير، وتلهث للحاق بها. في مصر، خرجت الجماهير مطالبةً بإسقاط النظام في 25 يناير/ كانون الثاني 2011 بشكل فاجأ المجموعات الشبابية نفسها، والتي أطلقت الدعوة إلى التظاهر. دعا الشباب إلى التظاهر اعتراضا على سياسات نظام حسني مبارك، وللمطالبة ببعض الإصلاحات. ولذلك فوجئوا بتدفق الجماهير ومطالبتها بإسقاط النظام، كما فوجئت بهم جماعات المعارضة التقليدية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين. لذا ظلت الاحتجاجات الجماهيرية المصرية بلا لون حزبي أو أيديولوجي حتى إسقاط مبارك في 11 فبراير/ شباط 2011. ولولا ذلك، لربما عجزت عن إسقاطه، فلو استطاع النظام وصم المظاهرات بالحزبية، لربما نجح في شق صفوفها الداخلية، وإضعاف الدعم الدولي لها.
تكرر الأمر نفسه أخيرا في الجزائر والسودان، فالاحتجاجات الجماهيرية غير المسبوقة التي أدت إلى رحيل الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، لم تتم تحت قيادة حزب أو تيار أو أيديولوجيا بعينها. وحتى الآن، يصعب تحديد الجهة المسؤولة عنها. ولهذا، لم يجد الجيش الجزائري بدا من التخلص من رأس النظام، والخضوع تدريجيا لمطالب المتظاهرين. وتكرر الأمر نفسه في السودان، حيث استطاعت الاحتجاجات الجماهيرية إطاحة الرئيس عمر البشير، لأنها خرجت تحت قيادة جديدة، كتجمع المهنيين السودانيين ضمن تكتل قوى إعلان الحرية والتغيير، والذي يضم جماعات جديدة غير تقليدية، أو تعبر عن تحالف واسع من قوى المعارضة يصعب تصنيفه. ولهذا نجحت في الفوز بثقة الناس، وعجزت مؤسسات الأمن عن مواجهتها.
تقول دروس الثورات السلمية إن المؤسسات الأمنية، وخصوصا الجيوش، تعجز عن فض 
المظاهرات الجماهيرية لو فشلت في تصنيفها، فلن يفتح الجندي النار على أشخاصٍ عاديين قد يكونون من أبناء أسرته أو قريته، خرجوا للمطالبة بحياةٍ كريمةٍ، مثل بقية أبناء الشعب. وللأسف، من نجح في تلوين انتفاضة المصريين، حزبيا وأيديولوجيا، وتسهيل مهمة قوى النظام القديم، وفي مقدمتها المؤسسات الأمنية، في القضاء عليها، كان الجماعات المعارضة التقليدية نفسها، والتي سرعان ما انقسمت حول مسار الانتقال الديمقراطي، متناسية أن وحدتها ضرورة لنجاح أي مسار تختاره في مواجهة قوى النظام القديم. واستمر انقسامها وتصادمها حتى وصل المصريون إلى مشهد "30 يونيو" المؤسف، ثم إلى انقلاب 3 يوليو في 2013، فمنذ انقلاب الجيش المصري على الرئيس حسني مبارك في 11 فبراير/ شباط 2011، وحتى انقلابه على الرئيس المنتخب، محمد مرسي، في يوليو/ تموز 2013، والمصريون يعيشون في انقسام أيديولوجي حاد بين معسكر متديّن بقيادة الإخوان المسلمين ومعسكر علماني تبلورت قيادته قبل الانقلاب العسكري في تجمّع سمّي جبهة الإنقاذ، ضم قادة الأحزاب اليسارية والليبرالية التي شاركت في الثورة، ورموزا من نظام مبارك، وبعض شباب الثورة، في تحالفٍ واحد، يحمل شعارات مدنية أو علمانية رافضة ما رأته مشروعا إخوانيا لاختطاف الدولة المصرية والعملية الديمقراطية لصالح التيار الديني الأقوى جماهيريا. ولذلك رأت القوى العلمانية، أو المدنية، أنه لا مفر من التحالف مع الجيش المصري نفسه للانقلاب على أول رئيس منتخب ديمقراطيا، على أمل أن يتنازل لها الجيش المصري عن السلطة بعد ذلك طواعية. وساهم قادة جماعه الإخوان المسلمين في إنجاح مهمة الجيش والقوى العلمانية، بسبب جمودهم الفكري والسياسي، والذي أدى إلى طرد أكثر شبابهم انفتاحا ومرونةً من الجماعة، وإلى تحالف "الإخوان"، ولو ظاهريا في الإعلام والبرلمان، مع القوى السلفية، وإلى ترويج أفكار يمينية متشدّدة كحروب الهوية والصراع الديني العلماني في الإعلام المحسوب على الجماعة.
وللأسف، وبعد مرور ستة أعوام على الانقلاب، وعلى الرغم من كل ما قام به النظام الحاكم، بقيادة قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي، من إجراءاتٍ قمعية فجّة، كاعتقال أكثر من ستين ألف ناشط سياسي، وقتل مئات في الشوارع، وحجب وإغلاق وسائل إعلام عديدة وتكميم الأفواه، وإطاحة أي معنى للدستور واستقلال السلطات، ما زالت القوى السياسية المصرية منقسمة حزبيا وإيديولوجيا. وخلال معركة الاستفتاء على التعديلات على الدستور، ظهر مدى الضعف الذي وصلت إليه القوى السياسية التي شاركت في ثورة يناير، وفي مقدمتها قوى المعارضة التقليدية.
بدا صوت جماعة الإخوان المسلمين التي قاطعت الاستفتاء ضعيفا خافتا، وسط حديث مستمر 
عن انقسامها داخليا، وعزلة قادتها الحاليين. ولذلك لم تلعب الجماعة دورا فاعلا في جهود مقاطعة الاستفتاء، فلم تدخل في تحالفاتٍ مؤثرة، أو تقود حملاتٍ حازت على تغطية إعلامية كبيرة. أما القوى المدنية، فخلال مؤتمر عقدته ما تسمى الحركة المدنية الديمقراطية، والتي تضم عددا من أهم قادة القوى المدنية، المحسوبين على الثورة وجبهة الإنقاذ، تحدث بعض قادتها عن "30 يونيو" مساوين بينها وبين "25 يناير". وتكرّر الحديث نفسه في لقاء أجراه المرشح الرئاسي السابق، حمدين صباحي، أحد أبرز قادة هذه المجموعة، مع قناة بي بي سي العربية قبل الاستفتاء. حيث ساوى بين خروج المصريين في 30 يونيو وخروجهم في 25 يناير، متناسيا دور فلول نظام مبارك والقوات المسلحة نفسها في دعم "30 يونيو" تمهيدا للانقلاب العسكري.
وبهذا، يستمر قادة القوى المدنية التقليدية في تأجيج الانقسام الإيديولوجي، والانشغال بالصراع مع جماعة الإخوان المسلمين، بدلا من مراجعة أخطائهم التي قادت إلى الانقلاب العسكري ومشاركتهم فيه. وكأن غاية هدفهم هو الحفاظ على النظام القائم مع تحسين شروطه، في مخالفةٍ واضحةٍ لمطالب الجماهير، ولمبادئ الديمقراطية نفسها، التي ترفض تسلط القوى غير المنتخبة على السلطة، سواء كانت تلك القوى جيوشا أو أقلياتٍ سياسية كالقوى المدنية. ولم تقم جماعة الإخوان أيضا بمراجعات لمواقفها التي أدت إلى الكارثة السياسية التي تعيشها مصر حاليا، ما ترك كثيرين من أتباعها يعانون من شعور عميق بالمظلومية، وجعلهم يتخندقون في تبرير كل سياسات الجماعة، خصوصا في ظل ما يتعرّضون له من قمع هائل.
وبناء عليه، انقسمت قوى المعارضة المصرية التقليدية في كل الاستحقاقات الانتخابية التي
 عقدت منذ انقلاب 2013، ففي كل تلك الاستحقاقات، فضل الإخوان المسلمون المقاطعة. وشاركت القوى المدنية بلا أي ضماناتٍ تذكر، أو جهد حقيقي لتوحيد القوى السياسية. وبهذا، تصر قوى المعارضة التقليدية، الإخوان والقوى المدنية، على تجاهل أحد أهم حقائق الانتفاضات الجماهيرية العربية، وكونها انتفاضات جماهيرية تلقائية، طالبت بتغيير النظم، بما يحقق الحرية والعدالة والمساواة، من دون التمسك بشعارات حزبية أو إيديولوجية بعينها. في المقابل، تبدو قوى المعارضة التقليدية متعاليةً رافضةً الاعتراف بوزنها الحقيقي وسط الجماهير، أو بأخطائها ودورها في الاستقطاب السياسي، وإفشال الاحتجاجات الجماهيرية.
وهذا يعني ببساطة أن تلك القوى باتت عائقا أمام حركة الجماهير المصرية، ورغبتها في التغيير، وأن على المعنيين بالتغيير في مصر البحث عن قوى جديدةٍ قادرةٍ على تخطّي عيوب القوى التقليدية، وفي مقدمتها الاستقطاب السياسي. وذلك على أمل أن تمنح القوى الجديدة الجماهير المصرية أملا جديدا في التجمع والتغيير، حتى لو كانت قوى صغيرة وغير معروفة، فهو المطلوب في ظل جمود القوى التقليدية الأقدم والأكثر شهرة.