إنقاذ من الحياة

إنقاذ من الحياة

28 ابريل 2019
+ الخط -
منذ تسلّم صاحبنا وظيفته الجديدة سائق سيارة إسعاف، ودويّها لم يعد يهدأ، على الرغم من أنه لم يكن يومًا مقتنعًا بهذه الوظيفة حصرًا. كان آخر ما كان يتوقعه أن يصبح سائق سيارة إسعاف، غير أن الظروف شاءت أن يصبح كذلك. قبل ذلك، كان على قناعة تامّة بأن هذه السيارات ليست أزيد من وسيلة ترف، وهدر غير مبرّر؛ فما حاجة محتضرٍ مثلًا إلى سيارة إسعاف لن تمدّ في عمره دقيقة واحدة على الحدّ المسموح به؟ أما الحوادث فيمكن إخلاء ضحاياها في أي سيارة عادية.
راودته تلك الأفكار حين تم تبليغه تعيينه سائق سيارة إسعاف في أحد المستشفيات، الذي تقدم له بطلب عمل للحراسة الليلية، غير أن إدارة المستشفى ارتأت تعيينه سائقًا، لكونه يمتلك رخصة قيادة، فأوشك على رفض الطلب، لولا إلحاح عائلته التي وجدت في الوظيفة الجديدة فرصة لسدّ رمق الفاقة التي أنشبت أنيابها في كل جزء من خلاياها.
عمومًا، تسلّم صاحبنا وظيفته الجديدة، بعد أن أنهى سائر المعاملات الرسمية. ومن سوء طالعه، أنه طُلب منه اصطحاب السيارة معه إلى منزله، ليكون جاهزًا للطلب في أي لحظةٍ يُستدعى فيها، فشعر وكأنه يقود سيارة موتى لا سيارة إسعاف، وصار يقود ببطء على وقع موسيقى جنائزية تدور في دماغه.
مرّت أيام لم يرد إليه فيها أيّ اتصال فشعر بالسأم، وارتأى أن يخرج في جولة مبكّرة ليبدّد كآبته. لمح من بعيد جاره الذي اعتاد أن يخرج من بيته قبل الدوام بثلاث ساعات، كي يتمكّن من بلوغ موقع عمله؛ لأنه يحتاج لركوب عشر حافلات عمومية، لتحقيق هدفه اليومي. وغالبًا ما يتأخر على الرغم من ذلك، وأصبح مهدّدًا بالطرد. ولا يدري صاحبنا كيف توقف إلى جواره بغتة، وطلب منه الصعود ليوصله إلى عمله، بل تعمّد أيضًا أن يشغَل بوق الإسعاف طوال الطريق؛ لأنه شعر بأنه "يُسعف" موظفًا إلى عمله، وينقذه من الطرد.
عندما انتهى من مهمة "الإنقاذ"، استحسن صاحبنا الفكرة، وصار يخرج من بيته مبكّرًا لإسعاف آخرين من أهل الحيّ: طلاب المدارس الفقراء الذين يجفّف البرد أطرافهم، والعمّال الذين ينبغي أن يلتحقوا بأعمالهم في مواعيد محددة، والمتعبين الذين لا يمتلكون دفع ثمن سيارات الركوب.
في المحصلة لم يعد دويّ سيارة الإسعاف يهدأ، غير أن الحادثة التي شكلت منعطفًا أخيرًا في حياته وقعت حين أقلّ يومًا جارته العجوز البائسة، التي لم يكن أحدٌ يعيرها انتباهًا طوال حياتها؛ فقد عاشت بصمت، واعتادت أن تكون آخر مرتاد لسوق الخضار، كي تحصل على بضع حبات من الطماطم بسعر زهيد، بعد أن ينفضّ ضجيج المشترين. لمح العجوز من بعيد، وهي تجرّ خطاها بصعوبة بالغة، وكان يدرك أن كل خطوة تخطوها تحسم من عمرها حبة طماطم أخرى، فأدار البوق، واتجه إليها مسرعًا ليسعفها إلى السوق. لكن ما إن ركبت العجوز السيارة حتى أحسّت بانتشاءٍ غريب، وتورَد وجهها، وكأنها تنفض عن جسدها المغضّن ندوب حياتها المهمّشة دفعة واحدة.
أرخت رأسها، وراحت تراقب السيارات، وهي تبتعد من أمامها لتخلي لها الطريق، فزادت نشوتها، ثم أدارت رأسها إلى صاحبنا بخجل، وقالت: "ليتك تطيل المشوار قليلًا"، فاستجاب لها صاحبنا وهو يشعر للمرة الأولى بأنه يؤدي مهمة "إنقاذٍ" خطرة، بل راح يتعمّد أن يجوب بها شوارع العاصمة كلها، ويزيد من صوت الدويّ. ويقال أيضًا إنه تعمّد أن يطلق دويّ البوق خلف مواكب مسؤولين "رفيعي المستوى"، كي يُخلوا الطريق للعجوز "المهمّة" التي يقلّها.
حين انتهى "المشوار"، توقف صاحبنا على مدخل سوق الخضار، وكم كانت دهشته بالغة، حين رأى العجوز مغمضة العينين بلا حراك، وعلى فمها ترتسم ابتسامةٌ لم يلمحها أحد على شفتيها قبلًا، وكأنها كانت تنتظر طوال عمرها سيارة إسعافٍ تنقذها من "الحياة".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.