ضوء أخضر للكارثة في ليبيا

ضوء أخضر للكارثة في ليبيا

27 ابريل 2019
+ الخط -
منح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قبل أيام، تأييدا مفاجئا للهجوم العسكري على العاصمة الليبية طرابلس، وذلك بدعوى محاربة الجنرال خليفة حفتر الإرهاب، علما أن الأنشطة الرئيسية للأخير كانت محاولة السيطرة على حقول النفط في شرق ليبيا، أما محاربة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فقد تولتها مجاميع عدة، تعود إلى حكومة الوفاق (خصوصا في سرت المعقل السابق للتنظيم الإرهابي)، كما يعود بعضها الآخر لحفتر. وقد جاء موقف ترامب مخالفاً للموقف الذي أعلن فيه وزير خارجيته، مايك بومبيو، رفضه النشاط العسكري في هذا البلد، لحسم مسألة التنازع على السلطة فيه، ودعوته إلى وقف إطلاق النار. لقد حملت غزوة طرابلس، منذ الرابع من إبريل/ نيسان الجاري، ملامح "انقلابية"، إذ انطلقت، قبل أيام من موعد مقرّر للحوار الوطني بين مختلف المكونات الليبية. والرسالة هنا أن الحسم العسكري، لا الحوار السياسي، هو ما يخرج البلاد من المأزق. وفي ذلك مخاتلة كبيرة، فقد كان الحل السياسي يتقدّم بعد مشاوراتٍ في غير بلد، شارك فيها الفرقاء الرئيسيون. وقد ألقت الأمم المتحدة بثقلها وراء فرص الحل، حين قام الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بزيارته إلى طرابلس، في الأيام الأولى من إبريل/ نيسان الحالي. وقد استقبل حفتر المسؤول الدولي الأرفع، والوفد الأممي المرافق، استقباله لصغار الموظفين، أو بعض المراجعين في أمور إدارية، حيث اعتصم بالجلوس وراء مكتبه الذهبي، واتّبع ذلك بشن الحملة على طرابلس، قبل أن يغادرها الأمين العام للمنظمة الدولية.
المغزى أن الحل السياسي، حسب هذا الرجل، يمُر بفوهات المدافع، وأن الرعاية الدولية، بما في ذلك قرارات الأمم المتحدة بشأن الملف الليبي، لا قيمة لها. وهو توجّه يجب أن يثير أقصى درجات الحذر، مع إدانة الانزلاق إلى المواجهة العسكرية، والدعوة الحازمة إلى وقف إطلاق النار. الخشية الآن أن يتم التعامل مع تصريح ترامب على أنه ضوء أميركي لاستكمال الحملة وتوسيعها، وإلحاق دمار واسع في البلاد. وهذا ما لاحظه المساعد السابق لوزير الخارجية 
الأميركي، جيفري فيلتمان، حين كتب: "في الوضع الراهن، على الأرجح أن يقتبس حفتر وداعموه نصّ البيت الأبيض لتصعيد العنف بدلاً من إنهائه. بالتالي، وحده طلبٌ واضح ومباشر وقاطع وعلني صادر عن البيت الأبيض بوقف القتال وبدء عملية سياسية، قادر على عكس النظرة الخطيرة بأنّ ترامب يحبّ تصرّفات حفتر، بغضّ النظر عن عدد القتلى الذي سيقع". وجاء تقرير فيلتمان بعنوان "عاصفة ترامبية تلبد سماء طرابلس"، ونشره أخيراً معهد بروكينغز للسياسات العامة الأميركي. هذا في وقت تحتفظ روسيا بموقفها الداعي إلى وقف إطلاق النار، من غير أن تبدي حماسة لتكثيف الجهود وتوحيد الصفوف في هذا الاتجاه، ومن غير أن تنكر دعمها الخفي لتحركات حفتر. ومن الواضح أن موسكو تراقب كيف تتجه الأمور على الأرض، وفي السماء الليبية، قبل أن تبلور موقفا نهائيا، وتعلن عنه.
أما المبعوث الأممي، غسان سلامة، فإنه يشكو من انقسام الموقف الدولي حيال المجريات الليبية، وما زال، على الرغم من الخطر، يتحرّك في طرابلس، معلنا أن صفحة مؤتمر الحوار الوطني لم تُطو بعد. لكن سلامة، بحكم طبيعة تفويضه، عاجز حتى الآن عن تحديد المسؤوليات في تدهور الوضع، مكتفيا بالدعوة إلى تجنيب المدنيين ويلات الحرب، علما أن أعداد الضحايا بين قتلى وجرحى ونازحين في تصاعد مستمر، ويُفترض عدم الاكتفاء بانتظار الأسوأ، بل الحؤول دون وقوعه.
وبينما أبدت حكومة الوفاق الوطني صلابة في استيعاب الهجمة والرد عليها، إلا أن تحركاتها تبدو محدودة على النطاق السياسي الخارجي، مع ضعف ملحوظ في النشاط الدبلوماسي، وذلك تحت ضغط الصدمة من المواقف الدولية التي لم تتخذ مواقف حازمة ضد التصعيد، مع المراهنة، كما يبدو، على أن صمود الوفاق في طرابلس وخارجها سوف يكون من شأنه إعادة الحسابات الخارجية، وبلورة مواقف محبّذة للحوار، لا الحرب. وفيما يترأس فايز السراج، بحكم موقعه، على رأس المجلس الرئاسي، قيادة القوات المسلحة، إلا أن المجلس لم ينجح في إقامة هيكلية جامعة للمقاتلين، وإنشاء جيش نظامي، أو شبه نظامي، بينما نجح حفتر في إقامة قيادة مركزية لمليشياته، تضمه وكبار مساعديه من الطامحين إلى السيطرة على البلاد وحكمها.
ومن الصادم أن خيار التصعيد هو المفتوح، فالمجلس الرئاسي يعلن رفضه أي حوار قبل ردع المعتدين، وحفتر ماضٍ في غزوته، والإرادة الدولية مشلولة وساكنة، وعلى نحو يثير التساؤل: أين ذهب الانشغال الدولي السابق سبع سنوات بالشأن الليبي؟ وهل تقزم الملف الليبي إلى درجةٍ باتت فيها الأنظار تتجه إلى حقول النفط ومن يسيطر عليها، بدلا من السهر على إطفاء الحرائق في كل الأرض الليبية؟
لقد قادت الأقدار التعسة الليبيين إلى استقبال فصل جديد من فصول مأساتهم المتطاولة التي
 تعود إلى نحو نصف قرن مضى، إثر الانقلاب العسكري الذي سمي ثورة الفاتح من سبتمبر في 1970، وأدخل البلاد والعباد في دوامة من الفوضى والتراجع على كل الأصعدة. ومع هبوب رياح الربيع العربي، ومشاركة الليبيين النشطة في التغيير، ابتداء من فبراير/ شباط 2011، ما أدى إلى إطاحة نظام معمر القذافي. غير أن التصحر السياسي والإداري الذي خلفه الرجل، وغياب ثقافة بناء الدولة والاعتصام بها، وازدراء القانون وسيادته وعموميته، قد أنتجت، في الحصيلة، انقسامات واسعة وتشبثاً بالمليشيات. ومن المفارقات أن الحملة على طرابلس قد أسهمت في توضيح الصورة المختلطة عن حشد المليشيات وهوياتها التي تتقاسم النفوذ في بلد عمر المختار، فاتضحت صورة المليشيات التي تقاتل تحت زعامة حفتر، وتلك التي يترأسها المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق، الحكومة المعترف بها دوليا، من دون أن تجني شيئا من ثمرات هذا الاعتراف، حين تحين ساعة الامتحان، وقد حانت.
يبعث على التأمل والأسى أن تخوض تشكيلاتٌ ليبيةٌ مسلحةٌ حربا ضد عاصمة بلادها، في وقتٍ تعلم الدرس كل من المؤسستين العسكريتين في السودان والجزائر، في الاقتراب من الشعب وتسليمه مقدرات الحكم، مع أرجحيةٍ للسودان في الإنجاز ووضوح الموقف. واللوم لا يقع على حفتر وحده، بل على الطرف الآخر أيضا الذي عجز عن النهوض بالدولة وفرض القانون، ومخاطبة جميع الليبيين، وصهر المليشيات في مؤسسة عسكرية واحدة.