"النبيذة" و"بريد الليل"

"النبيذة" و"بريد الليل"

26 ابريل 2019
+ الخط -
لم تكن الروائية اللبنانية هدى بركات (67 عاما)، تمزَح، وهي تقول، في كلمتها عقب إعلان فوز روايتها "بريد الليل" (دار الآداب، 2018) بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، الثلاثاء الماضي، في فندق فيرمونت البحر في أبوظبي، إنها زعلت عندما لم تصل روايتُها السابقة إلى القائمة القصيرة للجائزة، ما جعلها ترفض ترشيح روايتها الجديدة للمنافسة. ولم تستشعر أنها توحي لمستمعيها، في الحفل المصوّر، بأنها ترى نفسَها إما أن تفوز أو تفوز، ذلك أنها أخبرت ناشرتَها إنها كَبُرت على الامتحانات، ولا تريد التقدّم مجدّدا لهذه المسابقة. ولم تر الروائية، القديرةُ عن حق، إنها تسبّب حرجا للجنة التحكيم، لمّا قالت إن اللجنة شجّعتها على ترشيح "بريد الليل"، الأمر الذي ما عُرف إلا ساعاتٍ قبل الحفل، لمّا قُرِئ في تقريرٍ متقنٍ في موقع إلكتروني، طيّر خبرَ نيْل رواية بركات الجائزة الأولى، وأذاع أن اجتماع اللجنة لبتّ النتيجة "كان شبه عاصفٍ، وشهد سجالا امتد ساعاتٍ، وانتهى إلى التصويت". لم تخرُق اللجنة القانون في طلبها من بركات ودار النشر ترشيح "بريد الليل"، فهذا من صلاحياتها (المشروطة؟)، لكن فوز هذه الرواية يضع المحكّمين في حرجٍ، يُضاعِفه تسريبُ واحدٍ/ةٍ منهم الخبر قبل إعلانه في الحفل. وهذا سلوكٌ يستدعي من مجلس أمناء الجائزة إشهار بيانٍ يوضح ملابسات الواقعة التي جعلت الروائية العراقية، إنعام كجة جي (67 عاما)، لا تهبط من غرفتها في الفندق إلى قاعة الصقر فيه، فتُقاطع حضور الحفل وتكريمَها فيه، عن روايتها "النبيذة" (دار الجديد، 2018)، إحدى الروايات الست في القائمة القصيرة، والمرشّحةً بقوة للجائزة الأولى، ورآها قرّاءٌ عديدون، ومنهم صاحب هذه الكلمات، الأجدر من "بريد الليل" لهدى بركات التي إنْ يحقّ لها (ولغيرها) الاعتدادَ بنفسها، فإنها غالت كثيرا في تظهيره أمام الأضواء.
لا يحسُن أن يكون هذا كله سببا للنهش المُسرف، عن حق وغير حق، بالجائزة العالمية للرواية العربية، وإنْ يجيز الطلب من القائمين عليها إيضاح ما يحتاج إلى إيضاح، سيما وأنه يشذّ عن مسارٍ شفافٍّ، إلى حد كبير، في الدورات السابقة. وثمّة في جوائز غربيةٍ ما هو أكثر فداحة، وفضائح "نوبل للآداب" غيّبت الجائزة العالمية في العام الماضي. وجيدٌ من رئيس مجلس أمناء "بوكر"، ياسر سليمان، قوله إنه إذا ثبت إن تسريبا جرى من لجنة المحكّمين، "فلن نترك هذا الموضوع من دون مساءلة وتحقيق". .. ما جرى مسلٍّ للكلام كيفما اتفق في "السوشيال ميديا"، وله مقروئيته في الصحافة. لكنه لا يخصم من حيازة القرّاء فرصة الاحتفاء بنصوصٍ لافتةٍ في الرواية العربية الحديثة، الجديدة في اختباراتها الجمالية، فمن الروايات الست ما يستحق شكر لجنة التحكيم على اختياراتها. وأظن أن منافسة "النبيذة" على الجائزة الأولى في محلّها، وإذا لم ير محكّمون "في جلسة تصويت طويلة" (!) عدم جدارتها أمام "بريد الليل" (وهذا حقٌ لهم يحسُن احترامه)، فهذا لا يقلّل شيئا من البهجة بهذا العمل الذي تؤكّد فيه إنعام كجة جي إضافتَها النوعية في راهن الرواية العربية.
ثمّة ثراءٌ كثيرٌ في الحكايات المتشابكة في "النبيذة"، بالإطلالات على ثمانين عاما في العراق، واستذكاراتٍ من زمنٍ مضى في هذا البلد، موصولةٍ بإحالاتٍ على شحوبٍ ثقيلٍ في راهنه. ثمّة شخصيةٌ استثنائيةٌ في تنوع أبعادها وحمولاتها، وفي الإتقان الذي صنعته كجة جي في رسمها، تاج الملوك، الصحافية والعازفة في الأوركسترا السمفونية العراقية، القريبة من القصر الملكي. السرد المسترسل بلغةٍ طافحةٍ بالإيحاءات، المتداخل بين أزمنةٍ كانت وأخرى صارت، وأمكنةٍ بعيدةٍ وأخرى قريبة. تتناوب ضمائر الساردين الذين يحكون في التباسٍ نابه، في عمارةٍ من الحكي ينهض فيها تاريخ بلد، وتتعايش فيه أمزجةٌ وأذواق، ومسرّاتٌ وخسارات. فيها مقادير من الخيالي وأخرى من الحقيقي، ليس في وُسعك أن تمايز بينهما، لأن إنعام كجة جي أتقنت البناء الذي أقامته، والصنيع الذي جدلته بالحنين، وبلغةٍ كاشفةٍ عالية.
أما "بريد الليل"، فالتجريب فيها يجعلها لا تستسلم لقارئها ببساطة. أرادت هدى بركات أن لا تصل الرسائل التي يقوم مبنى الرواية عليها إلى من تُخاطبهم. أن تتوه، كما كاتبوها المجهولون الذين تبدو مصائرهم غامضةً ومكسورة. المآسي التي تنطق عنها الرسائل تشفُّ عن حال أفراد ومجاميع من البشر. والإيحاءات إلى قمعٍ واضطهادٍ وكبتٍ ظاهرة. روايةٌ صعبةٌ وقليلة الصفحات في آن. أحسب أن المغامرة الحاضرة في مبناها هو ما أخذها إلى "خطف" جائزة بوكر.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.