سؤال المصير من سريلانكا إلى سورية

سؤال المصير من سريلانكا إلى سورية

25 ابريل 2019
+ الخط -
لا يمكن لأي سوري إشاحة نظره عما في العالم من أحداث، فالأزمة السورية التي تمشي في عامها التاسع من الاقتتال والحروب والنزاعات، وعقدها الخامس، من مراكمة الأسباب الموجبة لأن تكون أزمة من هذا النوع، يبدو أنها مستعصية على إمكانية الحل، فكيف بسوري عانى من كل أشكال العنف والقتل والإرهاب المنظم، وغير المنظم، ولاقى كل أشكال التعذيب والتشريد والتجويع والإفقار والتهجير، ألا تهزه كل حين أعمال إرهابية تغتال الأبرياء من مأمنهم، وتطيح حيواتهم وتقصف أعمارهم، من دون أن يكون لهم ذنب أو تسجل بحقهم جرائم ارتكبوها ضد الآخرين أو ضد أي شيء؟
وعندما تكون الأعمال الإرهابية تحدث في بلادٍ تشبه بلادنا، فمن الطبيعي أن ينتاب المراقب من بيننا الخوف، بل الذعر من المستقبل، الذي لا يعد بالخير لهذه الأرض المنكوبة التي تكاتفت عليها قوى الشر في العالم، حتى قوى الطبيعة لم تكن رحيمة معها في سنوات جحيمها، فالتفجيرات الإرهابية التي نفذت ضد كنائس وفنادق في سريلانكا يوم 21 إبريل/ نيسان الجاري، وحصدت مئات الأرواح، وخلفت مئاتٍ أخرى من الجرحى، وحدها كفيلة بأن تدبّ الذعر في نفس كل سوري، يستنطق الواقع ليستطيع التكهن بالغد. سريلانكا بلاد متعددة المذاهب والطوائف والأعراق، ولديها تاريخ من الاستعمار، أدارها بحسب مصالحه وأجنداته، على الأقل في القرون الخمسة أو الستة الأخيرة التي تناوب خلالها على سريلانكا الاستعمار البرتغالي، ثم الهولندي، ثم البريطاني، حتى نالت استقلالها في العام 1948. لكنها عانت من حرب أهلية شرسة دامت ستة وعشرين عامًا 1983 ـ 2009، بين نمور التاميل، المنادين بالانفصال، والجيش السريلانكي، انتهت إلى قمع الحركة الانفصالية. وإذا كان البوذيون يشكلون غالبية السكان، 70%، فإن الهندوسيين والمسلمين يشكلون النسبتين الثانية والثالثة، وبعدهم المسيحيون بين كاثوليك وبروتستانت. أما عرقيًا، فإن الغالبية للسنهاليين 75%، يليهم التاميليون 11%، والباقون من قومياتٍ مختلفة من بينهم العرب.
قام البرتغاليون، في أثناء استعمارهم المنطقة، بتنصير قسري للسكان، خصوصا في منطقة الأغلبية التاميلية شمال الجزيرة، رافق ذلك تدمير معابدهم الهندوسية، وعمل الاستعمار 
الهولندي على تكريس التمييز بين المنطقتين، التاميلية والسنهالية، وتفضيلهم السنهاليين. وعملوا كما البرتغاليين على نشر الديانة الكالفينية، فأصبح هناك نوعان من التبشير المسيحي في القاعدة الشعبية الأصلية، كاثوليكي وكالفيني، ثم جاء الاستعمار البريطاني في العام 1815، عملت خلاله بريطانيا من أجل تطوير الزراعة، واستغلال خيرات البلاد باستقدام عمال تاميليين من الهند. وأدى ذلك أيضًا إلى وجود قسمين من التاميليين، هنود وأصليون، كان سببًا إضافيًا للخلافات والصراعات لاحقًا. ووضعت الإمبراطورية الاستعمارية نظامًا تعليميًا بالاشتراك بين الإدارة الاستعمارية والكنيسة الأنجليكانية، على حساب تهميش التعليم البوذي التقليدي هناك، وبالتالي إقصاء المكون البوذي عن تسيير الشأن العام. وعملت السلطة الاستعمارية على تكريس الشقاق بين الأعراق، فميّزت التاميليين عن السنهاليين، ما أسس، أو كان أحد الأسباب المهمة لإرهاصات الحرب الأهلية لاحقًا.
عندما انتهت تلك الحرب بعد ربع قرن أو أكثر قليلا، لم تمنح العدالة الانتقالية حقها ومجالها كي تؤسس لمرحلة تتجاوز فيها البلاد تاريخها الدامي والانقسامي، فالسلام لم يتحقق، وكذلك الاستقرار، وقضايا عديدة بقيت عالقة، أو تمت محاولة تغييبها، علّ النسيان يبتلعها، منها الوصول إلى حل سياسي للأقليات، فصحيح أنه في العام 1978 صار اسم الجزيرة جمهورية سريلانكا الديمقراطية الاشتراكية، إلا أن الديمقراطية لم تتحقق، ولم تترسخ فكرة المواطنة مفهوما وواقعا، ولم يوفق الشعب بنظام سياسي يحمي البلاد، ويدفع بها في طريق البناء والتقدم. لم تتخذ العدالة الانتقالية مجراها، وبقيت مشكلة المهجّرين والمغيبين قسرًا، والمفقودين بلا حل، ومع استمرار النظام بممارساته بعد الحرب الأهلية، فُتح المجال لأزمات اجتماعية كبيرة، زادت في تفريق الصفوف وتنامي العنصرية والتعصب بين مكونات الشعب، واستمرت العمليات الانتقامية بين هذه المكونات.
يقول المثل الشعبي ما معناه: أمران لا يكترث بهما الناس، خطيئة الغني وجنازة الفقير. ومن هذا المنطلق، ما أصاب الشعب السريلانكي من قتل أبرياء بالمئات نتيجة عمل إرهابي وحشي، وقبلها من ضحايا بعشرات الآلاف في الحرب الأهلية، لم تحرك كثيرًا الضمير العام العالمي. لم تحظَ بالتغطية الإعلامية التي تستحقها، على الرغم من فداحتها. ولولا أن المتهم الأكبر إلى الآن جماعة إسلامية، لما حظيت حتى بالاهتمام الحالي. كذلك الشعب السوري الذي لولا قضية اللجوء التي أربكت العالم، واستنهضت همم اليمين المتطرّف، بالإضافة إلى زرع كيان متوحش في المنطقة، ترافق مع ضخ إعلامي كبير حوله، وإمكانيات مادية ولوجستية فائقة، اسمه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قام بعمليات إرهابية كثيرة في شتى أنحاء العالم، ربما لما حظيت الحرب السورية بهذا الاهتمام الإعلامي، بينما قضية الشعب السوري، بل قضاياه مجتمعة، لم تلقَ الاهتمام والتأييد، ولم تسع الدول إلى وضع حدٍّ لقتله وتهجيره، ولم تتفق أنظمة الدول الضالعة بالحرب على أرضه، حول رؤية موحدة لحلٍّ يمكن أن ينقذ البلاد من محرقتها، ويدفعها في طريق النهوض.
يتطلع الشعب السريلانكي إلى تجاوز واقعه، بعدما أنهكته الحرب، لكن عملياتٍ من هذا النوع 
يمكن أن تعيده إلى المربع الأول، ولا تكفيه إدانة العالم مجتمعًا إعلاميًا من أجل منع انزلاقه مرة أخرى إلى حربٍ أهليةٍ لم تنهض البلاد من سابقتها، مثله مثل بقية الشعوب التي مرّت بتاريخٍ مشابه، وتعيش واقعًا يشبه أيضًا واقع الحرب الأهلية التي عاشها. كما سورية التي أنهكتها الحرب، ودقت أسافينها بين مكونات الشعب، وما زال العنف مستمرًا، والإرهاب متعدّد الأدوات والانتماءات ما زال متغولاً في واقعه ومصيره، وليست هناك نية حقيقية في إيقافه، سورية تعاني من إرهاب دول وجماعات وعقائد، كله اجتمع بنواياه المبيتة، بحجة واحدة "محاربة الإرهاب"، بينما تتعمق أسباب الخلافات المرشحة لأن تكون أدواتٍ لإشعال أزمات اجتماعية مستقبلاً.
يحق للشعب السوري أن يخاف مع كل موجة إرهابٍ تضرب أي بلد، فقد دفع الثمن باهظًا، وتقهقر قرونًا، إلى مراحل ما قبل الدولة، فصار الحلم بتحقيق الديمقراطية أصعب بكثير من السابق، صارت الديمقراطية وبناء دولة المواطنة أمام تحدّياتٍ أكبر، تحديات النكوص بالمجتمع نحو الراديكالية بكل أشكالها، من دينية وقومية وإثنية، في معظم أرجاء الوطن.
نقطة أخيرة، وهي بحسب عدة مواقع ووكالات، أنه تم تحذير الحكومة السريلانكية من خطر جماعة متطرّفة جهادية، تشير إليها أصابع الاتهام حاليًا، وأنها تخطط لعمليات إرهابية من هذا النوع. ومع هذا، وقع الحادث، وكأن الأنظمة الفاسدة لا تستمد شرعيتها إلا بوجود عدو يسمّى "الإرهاب"، والمؤسف أكثر أن الإرهاب صار وسمًا مرتبطًا بالإسلام، بسبب ما يقوم به الإسلامويون من أعمالٍ ضد الحياة وضد العالم، تدفع ثمنها الشعوب المسلمة التي تعاني من الفقر والاضطهاد والظلم في بقع كثيرة في العالم. والمؤسف أكثر أن الأنظمة الإسلامية لا تفعل أكثر من الشجب والإدانة في العلن، ومنها من يموّل هذه الجماعات ويرعاها، بينما على تلك الأنظمة أن تعمل على تحويل الإسلام إلى شريك قادر على صياغة القيم المتعلقة بالمصير الإنساني، عوضًا عن أن يكون سببًا في ظاهرةٍ تتنامى عالميًا هي "الإسلاموفوبيا".