ما لا تجده في غير السودان

ما لا تجده في غير السودان

24 ابريل 2019
+ الخط -
عرفتُ السودان عن قرب. أقمتُ في "العاصمة المثلثة" أربعة عشر شهرا في مطلع سبعينات القرن الراحل. تنقلت بين مدن العاصمة الثلاث: الخرطوم عموم، والخرطوم بحري، وأم درمان. أتاح لي عملي الدبلوماسي التعرّف إلى سياسيين وصحافيين وكتاب، وأيضاً مهنيين ومواطنين عاديين، واكتشفت في كل من عرفتهم طيبةً متناهيةً وصفاء نية وحلو معشر. ومن حسن حظي أن يكون من بين هؤلاء ناشط يساري، كان يتردّد على جار لي في الحي الذي أقمت فيه، وقد جمعتنا اهتماماتٌ متقاربة، وأعطتني لقاءاتي القليلة به معرفةً كثيرة في الشأن السوداني، وأطلعتني على أمورٍ لا يستطيع المسافر العابر الحصول عليها، وقد أفضيت له مرة باستغرابي من قدرة "العسكريتاريا" أن تحكم السودان سنواتٍ طوالا، وأن تُغرق البلاد في جحيم التفرّد والفساد، في وقتٍ لم تستطع فيه القوى المدنية من أن تأخذ نصيبها في عملية التغيير. أجابني مازحا: "إننا أصحاب قلوب طيبة، وسرعان ما نُخدع بمن يعدنا بالجنة، لنكتشف متأخرين أنه يقذف بنا في الجحيم".
هكذا استطاع العسكر خداع مواطنيهم في كل مرة، مستغلين "طيبة قلوب" السودانيين. ونتمنّى، من كل قلوبنا، ونحن نتابع أخبار الانقلاب العسكري الطازج الذي تعيشه السودان هذه الأيام، ألا تصدُق هذه المقولة مرة أخرى، وأن تتسّلم الحكم "قوى الحرية والتغيير" التي قادت الحراك الشعبي، وأن يحصل السودانيون من خلالها على ما يأملونه من حريةٍ وديمقراطيةٍ وتنمية، وهي الأقانيم التي شكلت محاور نضالهم عقوداً.
لم يكن الناشط اليساري الذي جمعتني به مصادفة غير محسوبة سوى القيادي الشيوعي الراحل محمد إبراهيم نقد الذي سيتبوأ لاحقا موقع الأمين العام للحزب، بعد عبدالخالق محجوب الذي أعدمه نظام جعفر نميري، مع مجموعة ناشطين وضباط يساريين، إثر فشل انقلابهم الذي لم يدم سوى ثلاثة أيام، وقد كانت تلك المجزرة حدثا فارقا في تاريخ السودان الحديث، وسجّلت 
خروجا على تقاليد السودانيين وأخلاقياتهم، وهم الذين عرفوا باحترام الخصوم، وسماع آرائهم والتحاور معهم، وشيوع التسامح والمصالحات بينهم. وقد اعتاد السياسيون، بمختلف تياراتهم، ألا تصل خلافاتهم الفكرية إلى حد القطيعة، وأن يلتقوا ويتزاوروا من دون أن يصبح اختلاف الرأي دافعا للخصومة أو الحقد، على النحو الذي رأيناه في أكثر من بلد عربي. ويعزو باحثون مبعث هذا الصفاء في العلاقة بين السياسيين إلى الجسور التاريخية التي جمعت السودانيين، بمختلف أعراقهم ودياناتهم وأصولهم القبلية، ورسّخ هذا التنوع حالة توافق ومشاركة في فعاليات العيش اليومي، على نحوٍ قد لا نجده في مكان آخر. وفي رصد لافت لباحثٍ اكتشف أن سكان السودان يتكلمون أكثر من عشرين لغة، لكنهم يتآلفون وكأنهم نسيج واحد.
وربما كانت الطروحات الفكرية لرجال السياسة تغذّي هذا التنوّع على نحو إيجابي، لا يؤسس لخصومةٍ، ولا يورّث حقدا. وقد لا يعرف كثيرون أن ثمة تلاقحا فكريا بين الماركسية والإسلام والعروبة، لا نجده في غير السودان، كان عبد الخالق محجوب يؤكّد دائما: "الإسلام والعروبة مكونان أصيلان في روح الشعب السوداني، ولا غرابة أن تجد تأصيلا لهذين المكونين لدى الماركسيين السودانيين"، وقد رفض خليفته إبراهيم نُقد "كل دعوةٍ تستصغر دور الدين في حياة الفرد، وفي تماسك لحمة المجتمع وقيمه الروحية والأخلاقية". وفي مذكرات ناشط سياسي سوداني أن نُقد نفسه كان يؤم المصلين في سجن كوبر المشهور في أثناء اعتقاله مع قادة وناشطين من مختلف التيارات، إثر الانقلاب الذي قاده عمر البشير، وإن إمام الطائفة المهدية، الصادق المهدي، ومرشد طائفة الختمية، محمد عثمان الميرغني، اللذين كانا ضمن المعتقلين، لم يجدا ضيرا من أن يأتمّا به. ولسوف يستغرب القارئ إذا ما عرف أن محجوب نفسه كان يقرأ يوميا وردا من القرآن الكريم، كما شهدت بذلك زوجته. وقد شهدت، في فترة إقامتي هناك، اجتماعا عاما نظمه الشيوعيون، افتتح بتلاوة من القرآن الكريم، وذلك كله قد لا نجده في غير السودان.
وعلى الرغم من أن العسكر السودانيين سعوا، في كل انقلاب نفذوه، إلى تفتيت القوى المدنية، وبذر الانقسامات فيما بينها، إلا أنهم لم يفلحوا في كبح جماحها، وهذا ما لوحظ في الحراك الشعبي الماثل الذي يصرّ على تحقيق مطالبه كاملة في إقامة حكم ديمقراطي يحقق الحرية، ويحترم حقوق المواطنة، وعسى ألا يُلدغ السودانيون من الجُحر نفسه مرة أخرى.

دلالات

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"