لماذا لم يكفّر الأزهر داعش؟

لماذا لم يكفّر الأزهر داعش؟

24 ابريل 2019
+ الخط -
انتهت أسطورة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد حربٍ شنّها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية على الأراضي التي سيطر عليها التنظيم في العام 2014، والتي دامت ثلاث سنوات وتسعة أشهر. ولكن قبل أن يُحفظ هذا الحدث الكبير في أرشيف التاريخ، هناك مسألة لافتة لم تلق الاهتمام الكافي في أثناء الحرب، وهي موقف الأزهر الرسمي من "داعش" والحرب على هذا التنظيم.
منذ أعلن أبو بكر البغدادي الخلافة المزعومة في 29 يونيو/ حزيران من العام 2014 طُولب الأزهر مرات بإعلان "كفر" هذا التنظيم، ولكنّه رفض بحسم تكفير هذا التنظيم المارق. وقد وقفت مؤسّسة الأزهر، وعلى رأسها الشيخ أحمد الطيب، من "داعش" موقفًا مناهضًا ومؤيدًا للحرب والقضاء على هذا التنظيم، فكان موقفه واضحًا في مؤتمره العالمي عن مواجهة التطرّف والإرهاب في ديسمبر/ كانون الأول 2014، أي بعد إعلان تنظيم الدولة الإسلامية عن نفسه في دولة مزعومة بستة أشهر. وتلا المؤتمر إنشاء المرصد العالمي للأزهر لمكافحة التطرّف في يونيو من عام 2015، وهو مركز بحثي وإعلامي يهتم بالتصدي للجماعات المتطرفة فكريًا وشرعيًا، ويرصد وينشر حوادث إرهاب الجماعات المسلحة باثنتي عشرة لغة. وعلى الرغم من كلّ هذه الجهود، وعلى الرغم من أفعال "داعش" التي تبرّأ منها القاصي والداني، وتبرّأ منها الأزهر الذي أعلن أنّ "داعش" لا يمثّل الإسلام الصحيح، وأوضح أنّ ما يقترفه من آثام لا يمتّ للإسلام بصلة. ولكنّ الأزهر ظلّ على موقفه أنّ "عدم التمثيل" هذا لم يُخرج "داعش" من الإسلام. ما الأسباب التي دعت الأزهر إلى هذا الموقف "المزدوج" من "داعش"، أي رفض التكفير وتأييد المحاربة في الوقت نفسه؟
الإيمان والكفر من المسائل التي نوقشت مبكرًا جدًا في صدر الإسلام ودار حولها نقاش طويل،
 واختُلف فيها أشدّ الاختلاف. وكان النقاش يدور حول سؤال: ما حقيقة الإيمان؟ هل هو تصديق بالقلب فقط، أم تصديق بالقلب وعمل بالجوارح؟ وانقسمت الإجابات إلى ثلاث: تقول الأولى إنّ الإيمان تصديقٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح. وقال بهذه الإجابة "الخوارج" الذين ظهروا عقب موقعة صفين التي تقاتل فيها علي ومعاوية رضي الله عنهما. وادعت الإجابة الثانية أنّ الإيمان تصديقٌ بالقلب فقط، ولكن هناك أعمالا ستخرج صاحبها من الإيمان، ولكن لن تُدخله في الكفر في الوقت نفسه، تبقيه في منزلة متوسطة بين منزلتي الكفر والإيمان، وهي منزلة "الفسق". قالت بهذه الإجابة فرقة المعتزلة التي ظهرت في القرن الأول الهجري واندثرت في القرن الخامس الهجري. وتقول الإجابة الثالثة إنّ الإيمان تصديقٌ بالقلب فقط، ولا يمكن لأي عمل، مهما كَبُر في العصيان، أن يؤثر في الإيمان. وترتكز هذه الإجابة على أنّ الإيمان لا ينتفي إلا بانتفاء أحد "أركان الإيمان" الستّة التي ذكرها النبي في حديثه الذي رواه البخاري "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله وأن تؤمن بالبعث". وكانت هذه إجابة الفرقة الأشعرية التي تبلورت في القرن الرابع الهجري، ثمّ تبنّاها الأزهر، منذ تحوّله مؤسسة سنيّة. ويشكّل المذهب الأشعري في الاعتقاد، بالإضافة إلى اختيارات نظرية أخرى، صُلب "مذهب أهل السنّة والجماعة" الذي هو مذهب الأزهر الرسمي. ويضم مذهب أهل السنة والجماعة فرق الأشاعرة، والماتوريدية وأهل الحديث.
يوضح شيخ الأزهر، أحمد الطيب، مذهب الأزهر في هذه المسألة، في ورقته في مؤتمر الأزهر العالمي لمواجهة التطرّف والإرهاب، في ديسمبر/ كانون الأول 2014، بعنوان "خطورة التكفير"، بقوله: "من المعلوم أنّ مذهب أهل السنّة والجماعة في حقيقة الإيمان هو التصديق القلبي بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. أمّا الأعمال من صلاة وصيام وحجّ وزكاة، ومن فعل الواجبات وترك المحرّمات، فإنّها، بمقتضى التعريف النبوي، لا تدخل في حقيقة الإيمان. ومقتضى ذلك أنّ زوال الأعمال لا يزيل الإيمان من أصله، بل يبقى المؤمن مؤمنًا، حتّى وإن قصّر في الطاعات، أو اقترف المعاصي والسيئات، ولا يصحّ أن يُطلق عليه لفظ الكفر بحالٍ من الأحوال، ما دام محتفظًا بالاعتقاد القلبي الذي هو حقيقة الإيمان ومعناه". ويقول إنّ القاعدة الذهبية لمذهب أهل السنة والجماعة الذي يتبنّاه الأزهر هي "لا يخرجك من الإيمان إلا جحد ما أدخلك فيه". ويعتمد الأزهر نصوصًا محدّدة في تدريس "العقائد"، منها نص "العقائد النسفية" الذي كتبه نجم الدين عمر النسفي المتوفي في القرن السادس الهجري، وفيه يحدّد الإجابة المعتمدة لسؤال الإيمان وعلاقته بأعمال المعاصي، وخصوصا الكبائر. يقول النسفي: "والكبيرة لا تخرج العبد المؤمن من الإيمان ولا تدخله في الكفر". و بالتأكيد فـ"القتل" من الكبائر المحرّمة، ولكن القاتل لا يخرج من الإيمان بارتكابه القتل.
ولكنّ موقف الأزهر الواضح والمستمرّ والملتزم بمذهب أهل السنة والجماعة في رفض تكفير
"داعش"، مهما ارتكب من جرائم ومجازر، لم يعنِ مطلقًا التهاون في الحكم على جرائم هذا التنظيم المسلح. بل على العكس، أعلن الأزهر وجوب الحرب عليه والقضاء عليه، بناءً على كونه تنظيمًا محاربًا ومفسدًا في الأرض. والإفساد في الأرض حكم آخر يتعلّق بالأعمال الجنائية مباشرة، مثل "القتل" و"القتل الجماعي" الذي كان "داعش" يقترفه باستمرار. إذن، يرى الأزهر أن الموقف من "داعش" يجب ألّا يتعلق بأعمال القلوب والعقائد، بل يجب أن ينبني على "الأعمال" الفعلية الجنائية الظاهرة التي يرتكبها المؤمن وغير المؤمن.
وبناء على هذا، أيد الأزهر الحملة الدولية على "داعش"، في مؤتمره الذي أعلن فيه بيانه بشأن الحرب على الإرهاب في القاهرة في ديسمبر/ كانون الأول 2014. يقول شيخ الأزهر، أحمد الطيب: "وعلى التحالف الدولي أن يستنفر كل طاقاته المادية والمعنوية للقضاء على هذا الإرهاب بكلّ توجهاته ومذاهبه ومدارسه، والتصدّي للدول التي تدعمه وتقف وراءه وتمده بالمال والسلاح".
التكفير ليس هو ما سيعطي مشروعية الحرب على "داعش" من الوجهة الدينية، بل جريمة "الإفساد في الأرض" هي أساس المشروعية الدينية لهذه الحرب. ولذا ففي كل مرة تظهر مطالبات التكفير، يعيد الشيخ أحمد الطيب توجيه البوصلة إلى الاتجاه الصحيح، وهو أنّ الإيمان والكفر ليسا أساس مشروعية الحرب، بل الإفساد في الأرض هو أساسها.
موقف الأزهر في رفض تكفير داعش هو التزام تاريخي ومستقبلي بمذهب أهل السنة والجماعة، وبجميع اختياراته العقدية، ومنها مسألة الإيمان والكفر التي اختلف فيها المسلمون في صدر الإسلام، وافترقوا فرقًا ومذاهب حولها، وقُدّر للمذهب الأشعري الانتصار في هذه المعركة الفكرية، وقدّر للأزهر أن يتزّعم هذا المذهب حتّى يومنا هذا. ولذلك يرى نفسه حارسًا لهذا المذهب، وأمينًا عليه، وملتزمًا به، فلا يمكن مخالفته. ومسألة حراسة المذهب أشد أهمية وديمومة وأولوية للأزهر من حربٍ مؤقتة على تنظيمٍ يمكن محاربته من منطلق حكم "الإفساد في الأرض"، في حين أنّ المنطلقات والثوابت العقدية لا تقبل التغيير، فالحرب على "داعش" ستنتهي يومًا، في حين لو حدثت سابقة التكفير، فإن المذهب الأشعري سينقضّ من أساسه، وهو ما يمثل أهمية وأولوية لمؤسسة الأزهر.
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
خديجة جعفر

كاتبة وباحثة مصرية، ماجستير في الفلسفة من الجامعة الأميركية في القاهرة.

خديجة جعفر