هذه الجيوش العربية

هذه الجيوش العربية

22 ابريل 2019
+ الخط -
يلحظ المتابع لتطورات ثورات الربيع العربي، منذ عام 2010 وصولاً إلى ثورتي السودان والجزائر، سطوة العسكر على مقاليد الحياة في الدول العربية، حيث تبوأ العسكر السلطة إثر استقلال غالبية الدول العربية خلال العقود السبعة الماضية. وبعيداً عن تطورات المؤسسة العسكرية، من حيث العدد والعدة والتسليح والاستراتيجية المتبعة، يبرز سؤال جوهري بشأن مستقبلها بعد التجربة التي مرّت بها ثورات الربيع العربي، وعدم انحيازها لمطالب الشعوب العربية التواقة للحرية والكرامة والعدالة.
واللافت أن المؤسسة العسكرية في الدول العربية لم تنحز إلى الشعوب، الأمر الذي يؤكد ضرورة إعادة بنائها على أسس وطنية صحيحة وممنهجة، حتى تصبح الجيوش العربية ذخراً للشعوب وحمايتها، وليس عبئاً عليها في ميادين السياسة والاقتصاد والأمن. وبإطلالة على تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية، يتبين أن الهزائم لم تدفع الجنرالات في الجيوش العربية لاستخلاص العبر ونقد الذات، فلم تشكّل مثلاً لجنة واحدة للتحقيق في هزيمة 1967. وفي الاتجاه نفسه، لم يترجم الجنرالات الانتصارات العسكرية الجزئية في حرب أكتوبر 1973، مثل تدمير خط بارليف في سيناء، وخط آلون في هضبة الجولان السورية، إلى مكاسب 
سياسية، بل انقلبت انتصارات الجنود الشجعان وتضحياتهم الجسيمة إلى هزائم سياسية ونجاحات إسرائيلية، تمثلت بعقد مصر اتفاقية كامب ديفيد عام 1978.
ولهذا، من الطبيعي جداً أن يتساءل كل عربي بشأن أداء الجيوش العربية وموازناتها ونفقاتها، إذ إن لهذه النفقات آثاراً سلبية مباشرة على تطور الصحة والتعليم، والتنمية البشرية. وفي وقتٍ تعاني فيه المجتمعات العربية من معدلات بطالة تصل إلى 30%، وأرقام فلكية للأمية، وصلت إلى 75 مليون أمي خلال العام الماضي 2018، تفيد تقديرات خبراء عسكريين بأن الدول العربية تبوأت المركز الأول عالمياً على صعيد الإنفاق العسكري والأمني، ويقدر بأكثر من 300 مليار دولار للعام الواحد خلال السنوات الأخيرة. ويعزو خبراء ارتفاع الإنفاق العسكري والأمني للبلدان العربية إلى توسّع غالبية حكومات البلدان العربية في زيادة عدد أفراد الجيوش والأجهزة الأمنية، وشراء أسلحة ومعدات عسكرية وأمنية، ورفع رواتب العسكريين وأفراد قوات الأمن، بمختلف مسمياتها، بغرض حماية العروش ليس إلا. إضافة إلى ذلك، جاء في تقرير لصندوق النقد العربي والمؤسسة العربية للاستثمار أن الإنفاق الدفاعي العربي شكَّل أكثر من 7% من الناتج المحلي الإجمالي في معظم الدول العربية خلال السنوات العشر الماضية، وهي من أعلى النسب في العالم. ووفقاً لدراسات متخصصة، وصلت نسبة النفقات على الجيوش العربية من الناتج المحلي الإجمالي إلى ما نسبته 26% سنوياً خلال العقد الأخير، على عكس ما كشفته معطيات صندوق النقد العربي. وبهذا يمكن الجزم بأن ما تنفقه الدول العربية وبلدان أخرى في العالم الثالث على المجال العسكري، يفوق حجم ما تنفقه هذه الدول على التنمية الاقتصادية والمجتمعية والبنية التحتية وإيجاد فرص عمل والتعليم والصحة والبحث العلمي وغيرها، ويترجم ذلك بعدم إخضاع الإنفاق على التسلّح والأمن لحماية النظم السياسية الشمولية، لمعايير تراعي ضرورات أن لا يؤثر على متطلبات تنمية مستدامة ومتوازنة، ومعالجة المعضلات الاقتصادية والفقر والعوز في الخدمات العامة والرعاية الاجتماعية.
ويتبادر إلى الذهن، في ظل تبوّء البلدان العربية المركز الأول عالمياً في الإنفاق العسكري والأمني، مقارنة مع الحجم الكلي للناتج، والإنفاق المحلي للبلدان العربية، أن ثمن طائرة 
عسكرية أميركية من صنف إف 22 البالغ أكثر من مائة مليون دولار يكفي لتشجير 240 كيلومتراً مربعاً، وهذا المبلغ كفيل بإنقاذ السودان وموريتانيا من اتساع ظاهرة التصحر. ويمكن للبحث العلمي أن يحقّق قفزة نوعية لو حُوِّل لصالحه جزء من الإنفاقين، العسكري والأمني. والثابت أن الفجوة العلمية بين الدول العربية والدول المتقدمة ليس مردّها ضعف الإمكانات المادية، بل الاهتمام بالجيوش لحماية العروش وعدم الالتفات إلى البحث العلمي ومخرجات التعليم، حيث تعتبر عملية الارتقاء بالبحث العلمي العربي من المقدّمات الأساسية للتنمية المستدامة، ورفع سوية المواطن العربي. وحسب تقارير لمنظمة الشفافية الدولية، فإن الأجهزة العسكرية في الدول العربية تنفق الأموال سراً، وتمنح العقود لمقربين ومحسوبين على مسؤولين فيها، كما أكدت أن 99% من موازنة الجيوش العربية، وخصوصاً الجيش المصري، لا تزال سرّية، ولا أحد يعلم أين يتم إنفاق الأموال التي يحصل عليها العسكر، فضلاً عن عدم الإعلان عن عدد العاملين في الجيوش، أو الفروع الأمنية المختلفة، أو أعداد من يتلقون رواتب من الجيش.
ويبقى القول إن زيادة الإنفاق العسكري في الدول العربية، وتراجع أوجه الإنفاق الأخرى على التنمية ومعالجة مشكلات الفقر والبطالة والأمية وتدهور البيئة، تعتبر دلالةً خطيرةً في ظل عدم انحياز الجيوش العربية منذ اليوم الأول لثورات الشعوب، المطالبة بالحرية من النظم الاستبدادية التي نالت من الاقتصاد والتعليم والثقافة، الأمر الذي يتطلب بعد انتصار الثورات العربية، إعادة تشكيل الجيوش وصياغة المؤسسة العسكرية بشكل ممنهج، بما يلبي تطلعات الشعوب العربية وتطورها، فضلاً عن حفظ الأمن والسلم الأهلي، وحماية الأوطان من أي عدو خارجي يتربّص بالدول العربية ومقدّراتها الوفيرة.