في سريلانكا.. وغيرها

في سريلانكا.. وغيرها

22 ابريل 2019

في كنيسة قرب العاصمة السريلانكية بعد الاعتداء (21/4/2019/الأناضول)

+ الخط -
للمرة المليون على الأقل، قلنا وغرّدنا وكتبنا أمس، ما إن سمعنا نبأ الاعتداءاتِ الشنيعة على كنائس وفنادق في سريلانكا، إن الإرهاب لا دين ولا جنسية له. تماما كما فعلنا، قبل شهرٍ ونيف، لمّا أزهق متطرفٌ عنصريٌّ مسيحيٌّ أرواح أكثر من خمسين مسلما مصلّيا في مسجديْن في نيوزيلندا. وها هم مجرمون، لسنا مستعجلين في معرفة ملّتهم، يستهدفون متبتّلين مسيحيين في كنائسهم، في صباح يوم عيدهم، في بلدٍ مطبوعٍ بالفقر والجمال (22 مليونا)، متنوعِ العقائد والأديان واللغات والإثنيات، يتساوى فيه عدد الأقليتين، المسيحية والمسلمة، أمام تفوّق عدد البوذيين. وسريلانكا بلدٌ معروفٌ لدينا بأنه بلد الشاي، غير أن سمعتَه أيضا أنه بلدُ حربٍ أهليةٍ طويلةٍ، تعود بعض أسبابها إلى نزوعٍ انفصاليّ لدى من ذاع صيتُهم نمورا تاميليين. وربما تؤشّر جريمة الأمس إلى دخول سريلانكا في طوْرٍ جديدٍ من فصول هذه الحرب التي نجحت في وقفها، إلى حدٍّ ما، رعايةٌ نرويجيةٌ لمفاوضات سلامٍ مضنية. وذلك إلا إذا وجد الداعشيون إياهم في كنائس سريلانكا وفنادق عاصمتها ملعبا مُضافا إلى شناعات فظاعاتهم، وهؤلاء مولعون باستهداف الكنائس، والمساجد أيضا إذا رأوا أن المصلّين فيها يليقُ بهم أن يكونوا قرابين في مقتلةٍ ينبغي ألا تتوقف لإزعاج نظام عبد الفتاح السيسي، كما فعلوها في جريمةٍ بالغة الشذوذ، قضى فيها 235 مصريا مصلّيا في مسجدٍ في شمال سيناء، تم الاعتداء عليه وعليهم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017.
إنه التوحش الذي تتحدّى أغراضُه وبواعثُه العقلَ لفهمها. صرنا، نحن المعلّقون المتعجّلون في الصحافة، نستسهل رميها على "داعش" وخفافيش الإرهاب المُعتم، ممن نعتصم بالحيرة والعجز إذا ما غامر واحدُنا، وحاول الوقوع على خرائط أمخاخهم، ومتاهات الظلام فيها. لا حرمةَ لكنيسةٍ أو مسجد، لا تمييز بين سنّة وشيعة، فالمراد هو الترويع وحسب. أن يخاف الناس. لا يجوز أن يكونوا آمنين، عليهم فقط أن يكونوا مؤمنين بقضاء الله وقدره، فالمكتوبُ لهم أنهم سيُقتلون إذا كانوا تقاةً مؤمنين بالله وعابدين، فإن الحور العين تنتظرُهم في الجنّة، وإذا لم يكونوا كذلك، فإنهم يغادرون الدنيا الفانية ومتعَها إلى ما يستحقّونه من سعير جهنم. لا علاقة لهذا كله، أو بعضِه، بما إذا كانوا شيعةً أو سنّة. أما النصارى، فكنائسُهم، في أعيادهم وغير أعيادهم، في مصر خصوصا، مباحة، لعلهم يوقنون أن لا حامي لهم، سواء كان اسمُه حسني مبارك أو عبد الفتاح السيسي. دلّ على ذلك الاعتداءُ، عشية رأس سنة 2011، على كنيسة القدّيسين في الإسكندرية، وأمثالُه على كنيسة العذراء في القاهرة في 2013، وعلى كنيسةٍ في المنيا في يناير/ كانون الثاني 2015، وعلى الكنيسة البطرسية وكاتدرائيةٍ للأرثوذكس في القاهرة في ديسمبر/ كانون الأول 2016. ويتم هنا التذكير بهذه الاعتداءات (وغيرها كثير) للانتهاء إلى أن منّا، نحن العرب المسلمين (أو العكس) من هم أكثر همّةً ونشاطا من هؤلاء الذين أخذوا شاشات الفضائيات، نهار أمس، إلى عاصمة سريلانكا وجوارها، حيث كنائسُ كان مؤمنون فيها يضرعون إلى خالقهم أن يديم عليهم السلام والنجاة.
ولأن الكلام يجرّ الكلام، أو لأن الدم يذكّر بالدم، فإن العنصري الأسترالي، برينتون تارانت، لمّا طخّ على المسلمين المصلّين في ذينك المسجديْن في نيوزيلندا، لم يكن يرتكب جريمةً غير مسبوقة، وإنْ زاول فيها تنظيرا شديد الخطورة، فقد صنع المجرمون في مسجد شمال سيناء، المؤشّر إليه أعلاه، ما كان قد اقترف مثلَه تنظيمُ الدولة الإسلامية في مسجد الإمام الصادق في الكويت في يونيو/ حزيران 2015، لمّا قتلوا 26 مصليا في يوم جمعة. وفعل مأفونون، غير داعشيين، اعتداءً مروّعا على مسجديْن في طرابلس اللبنانية، أُزهقت فيه أرواح أكثر من خمسين مصلّيا، في أغسطس/ آب 2013، في جريمةٍ رأت جبهة النصرة الرد عليها بجريمةٍ من لونٍ آخر، وفعلتها في اعتداءٍ مزدوجٍ طائفي البواعث.
هو أرشيفٌ مثقلٌ بالتوحش الذي يُتعب الأفهام والمدارك، استدعت المجيءَ على محطاتٍ منه، تتعلق بكنائس ومساجد، جريمةٌ جديدةٌ من الجنس نفسِه، في سريلانكا، دلّت أيضا على أن الإرهاب لا دين ولا جنسية له، كما لا غضاضة من تكرار هذه الرّطانة، ولو للمرّة المليون على الأقل.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.