لكل إبداع مقام

لكل إبداع مقام

03 ابريل 2019
+ الخط -
كثيرا ما طرق أسماعنا قولهم "لكل مقام مقال"، وكثير منا استعمله في سياقات فرضها القصد والهدف منها، والمفهوم العام من هذه المقولة يتعلق بالمناسبة بين الأقوال أو الأفكار، ومن يُستْهدف بها. والحال أن عدم التناسب بين الخطاب ومن يوجَّه إليه، يفضي إلى ضياع الجهود مع شعور المخاطِب بالاستهانة والبوار والإهمال من قبل من يوليه المكانة التي يستحقها، ذلك أن المخاطِب غالبا ما يسهر ويهمل منمقا، مصححا، باحثا، من أجل خطاب مفيد يستحق أن يستمع إليه.
وقولهم "لكل مقام مقال" مفادها بأن الخطاب حُلَّة ينبغي أن تفصل وفق المقصود بها، وإلا صارت فضفاضة يُتَخَلَّى عنها فيضيع جهدنا سدى بلا نتيجة.
يَقُولُ كَثِيرَ بْنَ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيَّ: "لا تُحَدِّثْ بِالْحِكْمَةِ عِنْدَ السُّفَهَاءِ فَيُكَذِّبُوكَ، وَلا تُحَدِّثْ بِالْبَاطِلِ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ فَيَمْقُتُوكَ، وَلا تَمْنَعِ الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَتَأْثَمَ، وَلا تُحَدِّثْ بِهِ غَيْرَ أَهْلِهِ فَتُجَهَّلَ، إِنَّ عَلَيْكَ فِي عِلْمِكَ حَقًّا كَمَا أَنَّ عَلَيْكَ فِي مَالِكِ حَقًّا"، فلكل مقال مقام ولكل مقام مقال، وما يناسب مقاما لا يناسب آخر، والمقام هنا ليس المكان فحسب، وإنما المتواجدون المخاطبون في هذا المكان. للمسجد خطابه، وللمدرسة خطابها، وللمهرجانات خطابها، وللمحافل خطابها، وللخاصة خطابهم وللعامة خطابهم.
والإبداع بكل ضروبه خطاب، ولكل خطاب جمهور، ولكل جمهور مستوى ثقافي وذوقي يجعله يستجيب لهذا الإبداع دون ذلك.
الإبداع خطاب خاص، وخصوصيته تستوجب أن يكون له جمهور خاص يفهمه، ويجِلُّه، ويتفاعل معه تفاعلا وجدانيا، يجعل صاحبه محترما يُصْغى إليه بكل اهتمام.
ليس كل الناس يمتلكون ثقافة وحس وتذوق الموسيقى الرفيعة، وليس كل الناس قادرين على فهم اللوحات التشكيلية بمختلف مدارسها واتجاهاتها، وليس لكل الناس القدرة والخبرة الكافية لنقد الإبداع بعد التركيز على مكامن الجمال والكمال والنقصان فيه.
في الأسبوع الماضي، شاءت الأقدار أن أكون من الحاضرين ضمن نشاط ثقافي بصدد تكريم مبدع كبير. دخلت القاعة الجميلة المضاءة، فوجدت على الكراسي جمهورا عريضا، يجمع كل الفئات العمرية. وقد صادفت قول منشط حفل الاحتفاء، إن فقرات البرنامج المقرر حافلة بإلقاءات شعرية لشعراء وشاعرات لهم قدم راسخة في التعبير الشعري الجميل.
كنت مسرورا فاستمرأت البقاء منتظرا، صعد شاعر فألقى قصيدته الرائعة، تلاه آخر ثم أخرى.. كنت منجذبا وفرحا لكني حزين أيضا. فرحت للمستوى التعبيري الجميل والعميق الذي قدمته القصائد الملقاة، وحزنت لأنني كنت أروم أن يكون الجمهور مصغيا منتبها مركزا، لأن في ذلك دلالة وعي ودلالة احترام لشاعر أفنى سنوات من عمره يتعلم الشعر كي يتحفنا اليوم.
كان جل الحاضرات والحاضرين منهمكين على محمولاتهم، لا أدري عما يبحثون، ويتحدث بعضهم مع مجاوره، ضاحكا متسليا، لا تهمه العبارات الجميلة التي قيلت.
فعلا، "لكل مقام مقال ولكل مقال مقام"، كان من الأجدر أن يُنْتقى الجمهور ليكون الحاضر المستمع المتأمل في الملقى عليه، وليكن عدد المنتقين قلة، فالنوعي خير من الكمي.
وما حدث للشعر، يحدث للقصة، ويحدث للتشكيل. رأيت كثيرين من زوار المعارض التشكيلية يتجولون بسرعة في قاعة العرض ليلوذوا إلى الكلام المكرر بينهم، بدل إعطاء دقائق للتأمل والتساؤل عن فحوى هذه اللوحة أو تلك.
بحثت عن سر الثغرة، فوجدت أن القائل "لكل مقام مقال" صادق كل الصدق.

لحسن ملواني
لحسن ملواني
لحسن ملواني
كاتب مغربي. يعبّر عن نفسه بالقول "الإبداع حياة".
لحسن ملواني