في تذكّر القمم العربية

في تذكّر القمم العربية

03 ابريل 2019
+ الخط -
بيننا وبين أول مؤتمر للقمة العربية، ذاك الذي انعقد في أنشاص المصرية، فسحة زمن طال أمدها، لتصل إلى أكثر من سبعة عقود. في تلك القمة التي خصصت لمناقشة القضية الفلسطينية، تعاهد القادة العرب على "التشاور والتعاون والعمل قلباً واحداً ويداً واحدة"، بحسب البيان المنشور آنذاك، لكن واقع الحال يقول غير ذلك، فكأن القادة اتفقوا على أن يكونوا قلوباً شتى، وأيادي مختلفة، وقد اتفقوا على ألا يتفقوا.
ومنذ تلك القمة، والقادة العرب يناقشون القضية الفلسطينية، ويظهرون اهتمامهم بها، وقد أشبعوها درساً وتحليلاً في ثلاثين قمة لاحقة. ففي القاهرة عام 1964، قرّروا "اعتبار أيّ سياسة عدوانية ضد فلسطين من الولايات المتحدة وبريطانيا سياسة عدوانية تجاه كافة الدول العربية". وفي قمةٍ لاحقة، اتفقوا على "تشكيل قيادة موحدة للجيوش العربية". وفي الرباط، تعاهدوا على "التحرير الكامل لكافة الأراضي العربية المحتلة عام سبعة وستين، وتحرير مدينة القدس". وفي بغداد، رفضوا اتفاقية كامب ديفيد. وفي عمّان اتفقوا على إسقاطها. وفي الدار البيضاء، أعلنوا "قيام الدولة الفلسطينية المستقلة". وفي عمّان اتخذوا قرار "قطع العلاقات مع الدول التي تنقل سفاراتها إلى القدس". وفي بيروت دعوا إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان. وفي قمة الكويت، اعتبروا "القضية الفلسطينية هي القضية المركزية"، وأكّدوا "أن القدس عاصمة دولة فلسطين".
هكذا انشغل القادة العرب بالقضية الفلسطينية أكثر من سبعة عقود، وأصدروا عشرات البيانات والقرارات بخصوصها، كما شغلوا شعوبهم بها، إلى درجة أنهم أعطوا الأولوية في مؤتمراتهم للاستعداد للمعركة الفاصلة من أجل تحرير فلسطين، وخصّصوا الجزء الأكبر من ميزانياتهم لعقد صفقات سلاح مع الشرق والغرب، كما كبتوا، من أجل فلسطين وقالوا، كل الأصوات التي تنادي ببناء الدولة العصرية، وضمان حقوق الإنسان العربي واختياراته، كما قمعوا كل هامش ديمقراطي ممكن، ورفعوا شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وصدّق الإنسان 
العربي دعاواهم، ورضي بالتنازل عن خبزه وحقه في الحرية، وصبر على ثلاثين قمة، ولك أن تحسبها أربعين إذا أضفت إليها القمم الطارئة والقمم الاقتصادية، حتى اكتشف أن كل ما قالوه، وما وثقته مؤتمرات القمة كان هواءً في شبك، ولو طبّق القادة العرب 10% من القرارات التي بصموا عليها بأصابعهم، لأمكنهم تحرير نصف فلسطين!
وها نحن، وبعد تلك العقود الممتلئة بالخيبة والخذلان، نتوسّل الولايات المتحدة الراعية لإسرائيل والحامية لها، ونتوسّل إسرائيل نفسها، أن تمنحنا بعض فتات "صفقة القرن" التي أقدمت واشنطن على الشروع بتنفيذها عملياً، إذ وهبت ما لا تملك هدية لحكومة تل أبيب، التي لم يجد القادة العرب في قمتهم الأخيرة، من حكم على هذا الموقف سوى مطالبة دول العالم بعدم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وعدم نقل سفارتها إليها، ورفض محاولات تكريس سيادة إسرائيل على الجولان، واعتبار أي قرار يستهدف تغيير الوضع القانوني والديموغرافي للجولان غير قانوني، ولا يترتب عليه أي أثر، وكأن عالم اليوم محكوم بالشرعية والمشروعية، لا بعلاقات القوة والسيطرة والنفوذ، هذا كله مع أنّ دولاً عربية معروفة شاركت أخيراً في مؤتمر وارسو، الذي عدّه كثيرون نقطة الشروع في إخراج "صفقة القرن" إلى العلن!
وصمت القادة العرب عن تحديد أيّ إجراءات عملية، ولو في الحدود الدنيا، تجاه الدول التي تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو توافق على تكريس سيادتها على الجولان، وخصوصاً تجاه الولايات المتحدة التي تزدري العرب، ولا ترى فيهم سوى خزانة مال وآبار نفط.
وفي موازاة القمم الثلاثين، ظلت إسرائيل التي أطلقنا عليها أيام زمان تسمية "الدولة اللقيطة" باقية وتتمدّد، وتنمرت في مواجهتنا إلى درجة أنها ابتلعت القدس كلها، وقضمت الجولان، وجزءاً من لبنان، وتستعد لخطواتٍ أكبر سعياً وراء إسرائيل جديدة تعيد إلى الذاكرة المفاهيم الصهيونية المتوارثة، التي يلخصها شعار "أرض إسرائيل من الفرات إلى النيل"، وسوف نسمع القادة العرب في كل قمة قادمة، يشجبون ابتلاع (أو قضم) إسرائيل أراضي عربية أخرى، ويعتبرون ذلك كله غير ذي أثر.
وفي تذكّر مؤتمرات القمة، ومع كل قمةٍ عربية جديدة، ليس لنا ما نقوله للقادة العرب سوى ما قاله شاعرنا لهم قبل سبعة عقود: "في يدينا بقية من بلاد/ فاستريحوا كي لا تطير البقية".
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"