القدس ... هندوراس والبرازيل وغيرهما

القدس ... هندوراس والبرازيل وغيرهما

03 ابريل 2019
+ الخط -
شاركت، قبل حوالي عشرين عاماً، في مؤتمر دولي في صوفيا، وصادف وجود وفد هندوراس إلى جانبي في إحدى الجلسات. تعرفت على رئيس الوفد، وإذا به ينحدر من أصول فلسطينية، من عائلة حنظل من مدينة بيت لحم. تحدثنا كثيراً عن الجالية الفلسطينية هناك، وأفادني بأن أكثر من عشرة أعضاء في البرلمان الهندوراسي من أصول فلسطينية. لم يمض وقت طويل، حتى انتخب في تلك البلاد رئيس جديد، هو كارلوس فقوسة، (1998- 2002)، هو الآخر من أصول فلسطينية، ومن مدينة بيت لحم تحديداً. ثم تغيرت الأحوال كثيراً، وأصبح اليمين المحافظ يسيطر على الحكم. واليوم تعلن هندوراس نيتها نقل ممثليتها الدبلوماسية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، ومعها كذلك رومانيا، وقبلهما البرازيل وغواتيمالا. 
ردت منظمة التحرير الفلسطينية، على لسان أمين سر لجنتها التنفيذية، صائب عريقات، وطالبت البلدين بالتراجع عن قرارهما و"الانحياز للقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان". ومن غير المؤكد حجم التأثير الفعلي لتصريحٍ كهذا، وإن كانت تخدم أكثر من كونها للاستهلاك الإعلامي ليس أكثر. ليت منظمة التحرير تنتقل من لغة القول إلى لغة الفعل، وتضع في برنامج عملها استراتيجية تتناسب وحجم الحدث. هي القدس، ولا أولوية قبلها.
هناك الكثير يمكن لمنظمة التحرير، والسلطة الوطنية، على الرغم من ضعفهما، أن تفعلاه. أصبح الحديث عن حقوق الإنسان والقانون الدولي غير مجدٍ في عصرٍ يواصل فيه اليمين 
المتطرّف انتصاراته، ويحكم قراره السياسي، سيما في عواصم صنع القرار الدولي. عوضاً عن التصريحات التي ربما لا تؤثر سوى في جدول أعمال الصحافي الذي يعدّها ويصوغها. يمكن ابتعاث وزير خارجية فلسطين إلى هندوراس، للاجتماع مع الجالية الفلسطينية هناك، ووضع آلية ضغط داخلي على حكومة الرئيس اليميني، خوان هرناندز، والذي، بالمناسبة، واكبت إعادة انتخابه عام 2017 احتجاجات شعبية عنيفة في العاصمة تيجوسيغالبا، فالوضع الداخلي لديه غير مستقر، والجالية الفلسطينية (200 ألف) تمسك في مراكز حيوية في عصب البلاد الاقتصادي، وفي وسعها إحداث ضغط داخلي، للتأثير في وضع الرئيس غير المستقر.
البرازيل التي زار رئيسها اليميني، جايير بولسونارو، إسرائيل الأسبوع الجاري، وكان قد وعد، في حملته الانتخابية، أن ينقل سفارة بلاده في دولة الاحتلال إلى القدس، تصدر ما قيمته خمسة مليارات سنوياً من اللحم الحلال إلى العالم العربي، وتعارض قيادات كبيرة في الجيش البرازيلي نية الرئيس نقل السفارة إلى القدس تحديداً، لتخوفهم من تأثير القرار على صادرات البرازيل هذه. بإمكان مبعوثي السلطة ومنظمة التحرير، وقيادات الأحزاب الفلسطينية، عوضاً عن ملء أوقاتهم بالتصريحات النارية ضد بعضهم بعضاً، والتي تغذّي الانقسام، أن يتوجهوا إلى مستوردي اللحم البرازيلي في العالم العربي ليحصلوا منهم على عرائض تعبر عن سخطهم على قرار نقل السفارة إلى القدس. وللعلم، هذا إجراء سهل جداً، كونه يتجاوز الحكومات العربية التي تخشى معارضة إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ويتوجه مباشرة إلى رجال الأعمال الذين هم الآخرون ليس مطلوبا منهم أن يحاربوا إسرائيل، وإنما التوقيع على عريضةٍ تعبر عن قلقهم فقط من نية الحكومة البرازيلية نقل السفارة إلى القدس. وينطبق المنطق نفسه على غواتيمالا التي لحق رئيسها، جيمي موراليس، بقرار ترامب فوراً بنقل السفارة، حيث 
تصدر إلى العالم العربي، بحوالي 400 مليون دولار، من حب الهيل، فبإمكان المستوردين العرب أن يتجهوا إلى الصين من أجل هيل قهوتهم.
السلطة الفلسطينية ضعيفة وعلى حافة الانهيار، ومع ذلك لا يبرر ذلك عدم انتقالها إلى حالة الفعل في موضوع القدس. ولذا ومن الضروري التأكيد على أن القدس لا تخص الفلسطينيين وحدهم، فهذه السلطة لا تملكها، ولا يجوز لها التصرف بها، فالقدس مرتبطة بالوجدان العربي والإسلامي، وجزء أساسي من هوية العرب والمسلمين وتاريخهم وحضارتهم وكرامتهم أيضاً. كما أن التحرك العربي في موضوع القدس ليس مساعدة للشعب الفلسطيني أو سلطته الوطنية، وليس منةً من أحد لأحد. هو لحماية القدس، ومنع تسرّب السفارات الأجنبية إليها ضرورة عربية إسلامية، يحافظ العرب في التأكيد على هذه الضرورة على هويتهم وتراثهم الديني الإسلامي والمسيحي، وعلى تكوينهم الثقافي أيضاً، فتسرّب السفارات الأجنبية إلى القدس لا يهدّد الفلسطيني في غزة ونابلس، وفي أماكن الشتات فقط، وإنما يهدد أيضا إدراك المواطن العربي في الرياض والقاهرة وعمّان وبغداد والرباط و... لثقافته وهويته ورؤيته لنفسه وموقعه بين الأمم.
على الحكومات العربية أن تدرك أن الدفاع عن القدس هو لمصلحتها ولاستقرار حكمها، إذ سيعزز ذلك من شرعيتها الداخلية بين شعوبها التي وعلى الرغم مما حل بها من ويلات وفظائع دموية في السنوات الأخيرة ما زالت تهتف بالقدس قضية مركزية للمواطن العربي أينما كان، معطيةً بذلك درساً في العطاء والتضحية والتمسّك بهويتها.
موجة التطبيع مع إسرائيل التي اجتاحت أخيرا معظم دول الخليج يمكن أن تكون شاهداً على هذا الرفض الشعبي للمساومة على القدس، وكيف أن في مصلحة الأنظمة الابتعاد عن هذا المسار. فعلى سبيل المثال، دعا الأكاديمي عبد الخالق عبد الله من الإمارات إلى وقف استيراد الخليج العربي الهيل من غواتيمالا بعد قرارها نقل سفارتها إلى القدس، ونشط "شباب قطر ضد التطبيع" على كل المستويات، لرفض التقارب مع الكيان المحتل، وسطر رئيس مجلس الأمة 
الكويتي، مرزوق الغانم، دروساً في "الدبلوماسية البرلمانية" على الساحة الدولية، بفضح جرائم الاحتلال، غير مكترثٍ بالتهديدات التي يتلقاها.
وقال ملك الأردن، عبد الله الثاني، هو الآخر، كلمته أمام أبناء شعبه قبل أيام في مدينة الزرقاء، عندما اجتمع بهم، وأكد أن "القدس خط أحمر"، وأعلن رفض الضغوط الأميركية ومقاومتها في موضوع القدس، الآن وفي المستقبل، معتبراً أن الموضوع منتهٍ بالنسبة له. وألغى الملك زيارته الى رومانيا، والاتفاقيات التي كان سيوقعها هناك، ما أحدث أزمةً بين رئيسة وزرائها فيوريكا دانسيلا ورئيس البلاد كلاوس يوهانيس الذي وصف رئيسة الوزراء بأنها جاهلة في السياسة الخارجية، وذلك كله بعد أن أعلنت، في ضيافة نظيرها الإسرائيلي، نتنياهو، أن بلادها ستنقل سفارتها إلى القدس. لم يأبه الملك إذاً بضغوط واشنطن، لعلمه أن كوشنر وغرينبلات وفريدمان أشخاص عابرون، طارئون على التاريخ، موجودون الآن، ولن يكونوا غداً، أما القدس فباقية.
هي القدس إذاً تضع الجميع أمام مسؤولياته، حكومات وشعوباً، سلطة فلسطينية وأنظمة عربية. وعلى الجميع أن يقرّر فيما إذا أراد أن يكون على الجانب الصحيح من التاريخ. القدس ليست حدثا له بداية ونهاية، هي هوية وتاريخ وثقافة ووجدان، هي ببساطة القدس.
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
إبراهيم فريحات

أكاديمي وباحث فلسطيني، رئيس برنامج إدارة النزاعات في معهد الدوحة للدراسات العليا.

إبراهيم فريحات