نوتردام ستظل تقرع الأجراس

نوتردام ستظل تقرع الأجراس

19 ابريل 2019

نيران تعلو كاتدرائية نوتردام (15/4/2019/Getty)

+ الخط -
تعرّضت كاتدرائية نوتردام في مركز مدينة باريس إلى حريق مساء الاثنين، والتهمت النيران جزءا من ذاكرة هذا المكان الذي يحمل رمزيةً عاليةً على المستوى الكوني. وهذا ما عكسته ردود الفعل التي ارتقت إلى حدود الصدمة. ومن خلال تباين الحساسيات تجاه الكارثة، برزت مواقف أعادت التذكير بما تعرّضت له معالم تاريخية مماثلة من دمار بسبب الحروب.
كاتدرائية نوتردام ليست مجرد كنيسة تاريخية، أو معلم فرنسي سياحي، بل هي جزء من مدينة باريس، إحدى أهم محطات التنوير الفكري والفن والثقافة وحقوق الإنسان. هي مكان خاص وحميم، ليس للمسيحيين فقط، بل لكل الناس الذين ينشدّون إلى باريس التاريخية التي حضرت بقوة في الشعر والرسم والسينما والغناء والرواية. وهذا ليس حكرا عليها، فكل المعالم التراثية ذات الحمولة الرمزية ارتبطت بسردياتٍ خاصة لأهل المكان وزائريه.
كاتدرائية نوتردام التي كانت مركز رواية الشاعر والروائي فيكتور هوغو في رواية "نوتردام دو باري"، ليست أجمل الكنائس القوطية في أوروبا، فهناك كاتدرائيات وكنائس تتفوق عليها من ناحية الطراز المعماري، ولكنها الأوسع سمعةً، وهي تستمد ذلك من وجودها في قلب باريس، وهذا ما أوحى لفيكتور هوغو بروايته الرائعة التي استندت إلى فكرة الدفاع عن العدالة، وأخذ من شخصية الأحدب "كوازيمودو" قارع الأجراس رمزا للحرية في وقتٍ كانت الكنيسة تمثل سلطةً في فرنسا.
كان الحريق هائلا إلى حد أن التقديرات التي صدرت في الساعة الأولى أفادت بأن جهاز الإطفاء في باريس لن يستطيع السيطرة عليه، وصرح وزير الداخلية الفرنسي بأن إمكانية إنقاذ الكنيسة ضعيفة جدا. وتجلت الصعوبات في طبيعة البناء الذي لا يساعد رجال الإطفاء على التعامل مع النيران التي اندلعت بسرعة بسبب أعمال الترميم، وزاد من صعوبة المهمة موقع الكنيسة وسط حيٍّ، جانب منه سكني وجانب آخر سياحي، وغير بعيد عنها يقع أحد أكبر مشافي العاصمة الفرنسية، "مشفى أوتيل ديو". ولكن إطفائية باريس زجّت 400 من أفضل رجالها الذين تمكّنوا من محاصرة النيران في مواجهةٍ دامت ليلة كاملة، وانتهت فجرا بحصيلةٍ تمثلت في إنقاذ القسم الأكبر من مخزون الكنيسة الأثري والتاريخي.
ويستحق الإطفائيون الذين قهروا النار أكثر من وسام، فهم قاموا بعمل تاريخي يضاهي في أهميته بناء الكنيسة، وهذا يطرح، في المقابل، أسئلة عن المسؤولية تجاه حصول هذا الحريق الذي يعتبر شأنا على درجةٍ من الخطورة لجهتي المكان والزمان.
وتشكل ردود الفعل على الحريق مروحةً من التباينات التي تلخص مشهدا معقدا على المستويين، المحلي والخارجي. في البداية، تتوجب الإشارة إلى أن فرنسا عاشت تجاه هذا الحادث لحظة كبيرة من التضامن، ولم تنم تلك الليلة حتى أعلنت إطفائية باريس السيطرة على الحريق. وقابل ذلك الاهتمام الكبير بضرورة إعادة تعمير الكنيسة بأقصى سرعة ممكنة. وعلى الرغم من أن الدولة الفرنسية ليست فقيرة، فإن التبرعات بدأت منذ صباح اليوم الثاني للحريق، من أجل إعادة الإعمار، وهذا تعبيرٌ عن حيوية الأمم وصفاء معدنها في الأزمات الكبيرة.
وعلى عكس حالة التضامن المحلي والدولي، هناك مواقف نافرة، تعبر عن وجدان على درجة كبيرة من الاضطراب، لا يرى المأساة، إذا لم يمرّرها في مرآة ذاته الضيقة قبل كل شيء. وتمثل ذلك بصدور مواقف متشفية باحتراق جزء من هذا الصرح الكبير، وصار بعض الشامتين يقدّم موقفه المستهجن على منصةٍ من المظلومية الفارغة، ويقارن بين الحرائق التي التهمت حواضر المنطقة في بغداد وحلب وحمص وصنعاء وكنيسة نوتردام. الاعتراض على سياسات فرنسا لا يبرّر النشوة بحصول كارثةٍ بحجم حريق نوتردام، ودمار العمران في بلادنا بسبب الحرب ليس سببا للتشفّي بالآخرين.

دلالات

1260BCD6-2D38-492A-AE27-67D63C5FC081
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد