العقد الاجتماعي المرغوب في الجزائر

العقد الاجتماعي المرغوب في الجزائر

19 ابريل 2019
+ الخط -
من الأهمّية بمكان، لإحداث التّغيير، السّعي إلى فهم لماذا يتحرّك النّاس ويتّفقون، في لحظة ما، على الخروج للتّنفيس عن أنفسهم، وطرد الإحباط مع استهداف استعادة الفضاء العامّ، الكرامة، الحريّات العمومية ومصير مشترك للجميع. مجرّد فهم هذا سيؤدي، ربّما، بل حتما، إلى ميلاد جزائر جديدة، حيث إن النّداء إلى العقلانية في إطار الحراك لا يجب أن ينتهي إلا إلى سبيل مرغوب: عقد اجتماعي منه، ما هو مؤقت إجرائي لإدارة المرحلة الانتقالية، ومنه ما هو ذو ديمومة على غرار الدّستور والمنظومة القانونية التي ستحكم كل السّلوكات، وتؤدّي إلى إقامة دولة القانون.
سمعنا، أخيرا، آراء كثيرة، وقرأنا وشاهدنا كتابات وتغريدات ومداخلات كثيرة في نقاش جديد ومتجدّد، بشأن ما يجري في الجزائر منذ 22 فبراير/ شباط الماضي. وعند تقييم تلك الإسهامات النّقاشية، نصل إلى نتيجة، وهي أنّ الجميع توّاق للمشاركة، وأن الهمّ المشترك هو همّ وطنهم بكل فئاته، كما أنّ تلك النّقاشات تنمّ عن وجود تنوّع ابتكاري لصنع الغد، بعد استعادة الإمكانية على إحداث التّغيير المختطف منذ عقود.
نكاد نجزم أن مسار نداء العقل قد انطلق، حيث انتبه الجزائريون، بعد ثمانية أسابيع من الحراك، إلى الفرق الشّاسع بين الفعلين، الاجتماعي والسياسي، حيث يتمتع الأوّل بالعاطفية، ويتّسم بالسقف المتعالي للمطالب، وبصعوبة التكيف مع توازناتٍ، حسابات، تنازلات وتسويات الفعل الآخر (السياسي) الذي يقوم على إدارته أناسٌ يضعون نصب أعينهم أن قوام القرار الأخير هو فن الممكن، التسوية والتفاوض، لأنه عالم السياسة الذي محورُه الدهاء في الحوار، بخلفية الوزن والأدوات التي يمتلكها كل طرفٍ، إضافة إلى من يقف معه، والحدود التي يمكنه الوقوف عندها، أي الخطوط الحمراء (الثّوابت والمتغيرات).
وعند انتباههم إلى ذلك، كانت الخطوة المثلى للاستجابة والتكيّف هي السّعي إلى الحديث عن 
ثوابت ومتغيرات، ثنائي الحراك والفاعل السلطوي، كما خطّ بعضهم، وهم كثيرون، وخصوصا على منصّات التوّاصل الاجتماعي، ومن خلال النّقاشات، خريطة طريق إلى سعي استراتيجي، يحول دون انفراد السّلطة بالمشهد، من خلال التطبيق الحرفي للمادة 102 من الدستور، لأن ذلك التطبيق يفتح المجال واسعا أمام إعادة إنتاج النظام بواسطة انتخابات رئاسية بميكانيزمات النظام نفسها، وأدواته ورموزه ونخبه. وليكون الجزائريون، بذلك، أمام التفافٍ صريح لحراكهم، ولتبقى دار لقمان على حالها إلى إشعارٍ، قد يطول عقودا أخرى، كما جرى من قبل، بل منذ استقلال البلاد في 1962.
في هذه اللّحظة، بالذّات، بدأنا نسمع عن عقد اجتماعي جديد، يمكن أن يحمل تسمية "ميثاق جزائر ما بعد 11 فبراير 2019"، ويتضمّن أربع نقاط، ليس إلا، حيث يكون ذلك العقد بديلا لإعلان دستوري، اقترح بعضهم أن تصدره المؤسّسة العسكرية التي تريد البقاء في أداء مهامها الدستورية، بدون إرادة حقيقية للانخراط في الفعل السياسي، على الأقلّ إلى الآن.
يجري التّفكير، الآن، بفرض مسار استراتيجي للتّعامل مع الأمر الواقع، المتمثّل في إعمال المادّة 102 الدّستورية، إعمالا حرفيا بدون إرفاقها بالمادتين 7 و8 (تشيران إلى أن السلطة للشعب وأن الشعب يملك سلطة تأسيسية)، إلا فيما يخص العرض الموجه للحراك والمعارضة، على حدّ سواء، للانخراط في الانتخابات الرئاسية والمشاركة الفعلية في اللجنة العليا لتنظيم الانتخابات، وهو العرض غير الكافي، لأنه يتم في ظل أدواتٍ هي، في المخيال الجمعي السياسي الجزائري، مناط التّلاعب بالانتخابات وإعادة إنتاج النظام أو، كما يقال، إحداث التّغيير داخل النّظام، وليس للنّظام كما يُطالب به الحراك من خلال شعار "يتنحّاو قاع" (ليرحلوا جميعا). يتضمّن ذلك المسار الاستراتيجي القبول بالانخراط في الانتخابات الرّئاسية، كونها مناط انطلاق التّغيير. ولكن، وهنا النقطة الأولى لتلك الوثيقة، أو "العقد الاجتماعي الإجرائي للمرحلة الانتقالية"، بدون التشكيل الوزاري الموروث من عهد الرئيس المستقيل، وكان يجب أن يرحل برحيله، إضافة إلى أن تلك الوزارة أداة رئيسية في الالتفاف على التّغيير، إذا سُمح لها بتأطير الانتخابات. وتشير النقّطة الثّانية إلى إلزامية استقالة رئيس المجلس الدستوري، الطيب بلعيز، (وقد استقال) كونه المقرّب من محيط الرئيس السابق، كما أن مجلسه، برئاسته، سيكون أداة ترسيم الالتفاف على إرادة الشعب في التغيير بإقرار مسار الانتخابات (الترشح، الحملة الانتخابية، رقابتها، إعلان النتائج و دراسة الطعون).
وبهاتين النقطتين، يكون قد تحقق تفكيك الباءات المرفوضة شعبيا (الرئيس المؤقت عبد القادر 
بن صالح، رئيس الحكومة نور الدين بدوي، ورئيس المجلس الدستوري، الطيب بلعيز)، حيث يتحقّق المرغوب بالنسبة لرئاسة الوزارة والمجلس الدستوري، في حين أن الرئيس المؤقت، برسم المادة 104 من الدّستور، لا يمكنه تجاوز المرحلة الانتقالية المتكوّنة، زمنيا، من 90 يوما، وبصلاحيات محدودة جداّ تجعل تحييده بالعمل على إبعاد الأوّليين عملا استراتيجيا، بأبعاد إيجابية أكيدة على عملية التغيير برمتها.
وتشير النقطة الثّالثة إلى هيكلة اللّجنة الوطنية لتنظيم الانتخابات، وإقرار المنظومة القانونية التي سيكون محور عملها الإشراف، رفقة الجهاز القضائي، على قانونية المسار الانتخابي، وقد بدأ ذلك العمل بإعلان القضاة، أو جزء منهم، عن قرارهم بعدم الإشراف على تلك الانتخابات، إذا استمرت الظّروف والمعطيات على ما هي عليه الآن.
وبما أنّ العمل على تجسيد تلك النّقاط الثّلاث لن يتمّ في غضون الـ 90 يوما التي تتحدث عنها المادة الدّستورية المشار إليها، فان النقطة الرابعة من الوثيقة يجب أن تتضمّن، منطقيا، إطالة أمد المرحلة الانتقالية إلى ستة أشهر، على أقصى تقدير، مع إرفاقها (الوثيقة) برزنامة تشكيل الوزارة، استقالة رئيس المجلس الدستوري، إقرار هيكلة اللجنة العليا لتنظيم الانتخابات ومنظومتها القانونية وانتهاءً بالإعلان عن موعد الرئاسيات ودعوة الهيئة الناخبة التي تسبقها عملية استثنائية، تحت إشراف القضاء، عملية مراجعة القوائم الانتخابية مراجعةً دقيقة. يُشار، هنا، إلى أنّ إطالة أمد المرحلة الانتقالية، سيوجِد الحاجة لتسمية هيئة رئاسية جماعية أو التوافق على شخصيةٍ تتولّى استكمال ترؤس المرحلة الانتقالية إلى غاية الانتخابات الرئاسية، وهي نقطة يمكن أن تضاف إلى جملة نقاط الوثيقة، وتكون محلّ توافق (حوار/ تفاوض) بين فاعلي السّاحة، حاليا، الحراك والسلطة.
تضمن تلك الوثيقة، إذا تمّ اقتراحها، عرضا تفاوضيا والتّوافق بشأنها من تنسيقيات الحراك المحلية ثم الوطنية، من الآن، قطع الطريق أمام السّعي الحثيث إلى إشاعة اليأس بين صفوف الحراك، مع انطلاق إجراءات التّضييق المطبقة من الأمن والمرافقة لتظاهرات الجمعة الثّامنة، إضافة إلى إشارة بيان "المديرية العامة للأمن الوطني" (المؤسّسة المضطلعة بمهمّة الأمن الحضري في الجزائر والتّابعة لوزارة الداخلية) إلى إمكانية وقوع فوضى، من جرّاء استمرار الحراك بعد "اكتشاف جماعة إرهابية" و"أجانب بنوايا سيّئة"، إلى جانب استمرار بروز "مندسّين" يفسدون، كلّ جمعة، التّظاهرات السّلمية والحضارية على مستوى كلّ التّراب الوطني.
يُشار، هنا، من ناحية أخرى، إلى أن تلك الوثيقة تُصبح ملزمةً للأطراف التي تتوافق بشأنها، 
وتحتاج لتجسيدها إلى ضامن وضمانات، وهي آليات يمكنها إشاعة روح الثقة والمسؤولية الوطنية، لإيصالها إلى مبتغاها، كما يمكن اعتبار أنّ مضمونها قاعدة عمل للعقد الاجتماعي التالي للرئاسيات، والذي ستنعقد لإقراره جلسات المجلس التّأسيسي، وتكون نهايته دستورا يعلن ميلاد دولة القانون في إطار الجمهورية الجزائرية الثانية.
يظنّ بعض ممّن جمعنا منهم شتات نقاط هذه الوثيقة أنّ المستقبل سيكون، حتما، مشرقا للجزائر، لأنّ الخطوة الأولى تمّ تجاوز هاجس الخوف من خلالها، إضافة إلى تغيّر تركيبة الجيش، وعقيدته، وقد أصبح احترافيا، بعيدا عن الانخراط في السياسة والاصطفاف إلى جانب الشّعب، منتصرا لمطالبه، ومرافقا مسار التّغيير المرجو والمرغوب، ليجتمع لديه، في هذه الآونة بالذّات، أدوات التّغيير والتفاؤل، أول مرّة، ربّما، بقرب تحقيق جزائر الجمهورية الثّانية.
إذا كان التّحرك استراتيجيا، فإن التغيير قاب قوسين من التّجسيد الفعلي. وإنّ غدا لناظره لقريب جدّا جدّا.