هذه العسكرتارية العربية

هذه العسكرتارية العربية

18 ابريل 2019
+ الخط -
تُشكل الجيوش معضلة حقيقية أمام التحول الديمقراطي في المنطقة العربية. وإذا كان تاريخ السياسة العربية، إبّان النصف الثاني من القرن المنصرم، يحيل على هذه الحقيقة ويؤكدها، فقد بات الأمر الآن أكثر وضوحا، بعد أن صارت هذه الجيوش بلا غطاء سياسي أو إيديولوجي، كما كان الحال في الماضي.
ليست هذه الحقيقة منفصلة عن التطور السوسيولوجي للجيوش العربية، خلال العقود التي تلت تأسيس الدولة العربية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى. وفي ظل بنيةٍ اجتماعيةٍ تقليدية، شكل الالتحاق بهذه الجيوش بالنسبة لأبناء القرى والأرياف فرصة للارتقاء الاجتماعي. ومع مرور الأعوام، أصبح هؤلاء يشكلون قوةً وازنةً داخل هذه الجيوش، ويتطلعون إلى لعب أدوار مهمة في ديناميات الصراع الاجتماعي والسياسي. وشكل انقلاب بكر صدقي في العراق 1936، وانقلابات 1949 في سورية، مؤشرات مبكرة على نزعة التسيّس داخل صفوف العسكر. ومع وصول ''اللحظة الليبرالية العربية'' إلى سقفها، بعد فشل النخب السياسية في صياغة مشروع وطني واضح، وهزيمة فلسطين 1948، ارتفع منسوب هذا التسيّس داخل هذه الجيوش بشكل غير مسبوق، وهو ما أذن بانعراج تاريخي في السياسة العربية، شكلت الانقلابات العسكرية ملمحه الأساسي أربعة عقود تقريبا.
أسهمت هذه الأحداث في بناء ثقافة اجتماعية داخل معظم الجيوش العربية، تنبني على شعور المنتسبين إليها بأحقيتهم في أخذ حصةٍ من النفوذ السياسي والاجتماعي والمادي، في مجتمعات سلطوية وتقليدية، يشكل فيها الفساد منظومة نسقية، وتتقلص فيها سيادة القانون إلى حد كبير. وحتى في البلدان التي أخفق فيها العسكرُ في الاستيلاء على السلطة، أو ظلوا بعيدين عن تقاطباتها، كان لزاما على النخب الحاكمة أن تبرم صفقةً غير معلنة معهم، وخصوصا مع القيادات العليا والمتوسطة، بموجبها تُخوَّل الأخيرة امتيازات مادية واجتماعية واقتصادية لا حصر لها، ثمنا لابتعادها عن السياسة.
وإذا كان الصراع مع إسرائيل شكل، لعقود طويلة، مبرّرا مركزيا للانقلابات العسكرية، فقد كان للمتغيرات الكبرى التي عرفها هذا الصراع دور في تآكل خطاب ''لا صوت يعلو فوق صوت المعركة'' الذي تبنته العسكرتارية العربية، وكشفِ حقيقتها أمام الرأي العام، سيما في ظل عدم مهنيتها ونزوعها إلى تغليب مصالحها التي باتت أكثر ارتهانا لتحالف السلطة والمال.
ويمكن القول إن تزايد الحس المدني والديمقراطي بين مختلف شرائح الطبقة الوسطى، وتطلع الشعوب العربية إلى الحرية والديمقراطية، وتراجع العقائد والإيديولوجيات الكبرى، وانحسار الحكم العسكري في أكثر من منطقة في العالم، ذلك كله أوجد إكراها بنيويا بالنسبة لهذه العسكرتارية، بعد أن فشلت في اجتراح تلك المعادلة التي ''أبدع'' فيه جيلها الأول في الخمسينات والستينات، حينما نجح في مقايضة الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية (الشغل، التعليم، الصحة، الرعاية الاجتماعية..) بغياب الديمقراطية والحريات والحقوق السياسية.
لم يعد في وسع الجيل الجديد من هذه العسكرتارية تدبير هذه المعادلة، لأسبابٍ كثيرةٍ، وليس من المبالغة القول إن نظام السيسي في مصر يمثّل النموذج الصارخ لفشل العسكر في إدارة هذه المعادلة، وتدبير تناقضاتها البنيوية بعد الربيع العربي. يجد هذا الفشل اليوم تبدّيه الأبرز في افتقاد هؤلاء العسكر الغطاء الإيديولوجي والسياسي الذي تَوفر لدى أسلافهم الأوائل سنوات المد الثوري والقومي. حتى فزّاعة مكافحة الإرهاب والعنف الديني تكاد صلاحيتها تنتهي الآن، وهو ما ظهر جليا في الحالة الجزائرية، إذ لم تمنع آثار العشرية السوداء الجزائريين من الاستمرار في الاحتشاد في الساحات والشوارع، طلبا للحرية والديمقراطية، ورفضا للحكم العسكري الذي ترزح الجزائر تحته منذ استقلالها عام 1962.
تخلصت الشعوب العربية، أو تكاد، مما يسميه عزمي بشارة، في كتابه ''الجيش والسياسة''، بوهم أن القيام بانقلاب عسكري يكون من أجل خدمتها. ولعل رفض الشعبين، السوداني والجزائري، مناورات العسكر، ومحاولتهم الالتفاف على الحراك في البلدين وتوجيهه، وإعادة إنتاج البنية السياسية نفسها، الغارقة في الاستبداد والفساد، دليلٌ آخر على تزايد الوعي الشعبي بضرورة بقاء العسكر في ثكناتهم وابتعادهم عن السياسة، والتطلع نحو تأسيس حكم مدني يقوم على الديمقراطية، وسيادة القانون، واحترام الحقوق والحريات الفردية والجماعية، وترسيخ قيم المواطنة والمحاسبة.