رؤوف مسعد.. الفوضوي الذي رأى

رؤوف مسعد.. الفوضوي الذي رأى

18 ابريل 2019
+ الخط -
يكتب بلا حذر، ولا يهمه الشكل، فهو شكل كتابته وضميرها ومحتواها. يكتب وكأنه في إغفاءة ما قبل الغروب. هو "إيثاكا"، وسعاد حسني هي براءة النشوة لديه، وبراءة الإنسان إن حاصرته الأنظمة والموانع، وهي ابنة الأولياء المنسيين في جبل المقطم أو في الشام. يكتب وكأنه يطارد قنيصة قبل الموت، أو كأنه يغيّر حِيَله، كي ينال متعة عابرة في قطار، من دون أن يسأل أو يهتم بتاريخ البلدان التي يعبرها. تأتيه سعاد حسني في "إيثاكا" كي تحل له معضلة "العسكر" بفيض براءتها، وتحل له أيضا معضلة الرواية. يكتب رؤوف، كي يُمسك بطيف سعاد وضحكتها، ولو حتى في زحام مولد سيدي أبو الحسن الشاذلي في "حميثرة"، أو يمسك بطيف سيدة لطيفة من دير الملاك، أو السودان، عرفها يوما ثم نسيها، يكتب بلا محاذير نقدية، ولا مسطرة ولا فرجار.
هو ابن جغرافيا العالم، والخارج من بطن اليسار، والمتمرّد على كل أطيافه. لا يمتلك يقيناً من أي نوع، هو فقط يمتلك بوصلة الشغف والهروب من الالتزام بأي شيء، سوى أحماله القليلة. الكتابة تسعى إليه، ولا يعاملها كموظف، ولا ينتظر إلهاما، ولا يشعل لها أي بخّور، فقط يرحل ويطوف.
خرج ثلاثتهم، هو وكمال القلش وصنع الله إبراهيم بعد خروجه من السجن، وقد توجهوا إلى تأمّل جسد السد العالي، وكتبوا كتابا عن المعجزة، علّها الهروب من قبضة الديكتاتور للنوم والارتياح من المطاردة بجوار نهر النيل وجسد السد العالي، بدلا من النوم في الزنازين. والغريب أن الثلاثة، فيما بعد، فرّوا كنوع من الهروب أيضا. كمال القلش بسيارته في رحلة إلى أوروبا الشرقية، وصنع الله إبراهيم إلى بيروت، والتي كانت من ثمارها المرّة روايته "بيروت بيروت"، كرحلته الممولة من رجل أعمال عُماني إلى سلطنة عُمان وكتب روايته "وردة". وانطلق رؤوف إلى بيروت أيضا، ومن بيروت إلى الخارج، ناسياً السجون واليسار والكتابة والسياسة وأي شكل آخر من أشكال الالتزام، لينجو بروحه من كل هذه الكآبات والنظم، حتى أتته "بيضة النعامة"، روايته الجميلة التي وضعته في صدارة المشهد الكتابي، من دون أن يسعى إليه.
كانت "بيضة النعامة" هي جائزة التعب لشيخٍ في الستين، لا يذهب إلى ناقدٍ، ولا يتماحك في مؤسسة، ولا يتباكى على مذهب أو يسار أو حزب، ولا ينتظر جائزة من نظام، فقط يمشي ويكتب، كلما تيسّر به الحال، وينشر أيضا بالمصادفات، وكأنه عابر سبيل.
الملفت في حالة رؤوف مسعد، وغير الملغز بالطبع، أنه يتجاهل المؤسسة الثقافية برمّتها من طرفٍ خفي، والمؤسسة بدورها أيضا تتجاهله من كل أطرافها الخفية والظاهرة. فلا هو التفت إليها، ولا هي التفتت إليه، أو حاولت استقطابه، في حدود علمي المتواضع، عكس احتفائها بالطبع بالعائد من الخارج، بعد غيبة طويلة، كبهاء طاهر الذي فرضته على سوق الدراما والمسرح ومنحته جائزتَي التقديرية والنيل، ولو استحدثت جائزة باسم البحر الأحمر أو قناة السويس لمنحتهما له من دون تردّد، من غير أن يهتز لها جفن، ولاستلمهما أيضا بهاء في طيبة ويسر.
ما السر في هذا الفوضوي الذي يكتب بالمصادفة، وينشر بالمصادفة، ويسعى وراء حظوظه الإنسانية كعادة الناس، ولا يعادي أحدا، في حدود علمي، ولا ينتظر أي شيء من أحد أو نظام؟
من سنوات، أتابع كتاباته بشغف، من دون أن أسعى إلى مقابلته، وذلك من دواعي حماية الفلاح الذي في داخلي، والذي لم يتكيّف مع "مداهنات" المدينة إلى الآن، على الرغم من الثلاثين سنة التي قطعت ما بيني وبين جذوري. وتأتيني كتاباته بالحظ، من على الأرصفة كـ "إيثاكا"، كحظ سعاد حسني، كحظوظ الأولياء، كحظوظ رؤوف في "موالد العالم" الزاخرة بالجود والكرم والمحبة، بعيدا عن وجوه النقّاد القديمة التي لا تمشي إلا بالقلم الرصاص والمنقلة والمسطرة والفرجار والأستيكة.

دلالات