هجوم حفتر على طرابلس بين الرهانات الإقليمية ووقائع الميدان

هجوم حفتر على طرابلس بين الرهانات الإقليمية ووقائع الميدان

16 ابريل 2019

متظاهرون في طرابلس ضد حفتر وهجومه العسكري (12/4/2019/الأناضول)

+ الخط -
أطلق اللواء المتقاعد خليفة حفتر عملية عسكرية جديدة، ليلة 4 نيسان/ أبريل 2019، بهدف السيطرة على العاصمة الليبية طرابلس. وفي غضون ساعات قليلة، دخلت قواته مدينة غريان، كبرى مدن جبل نفوسة، وبلدات قريبة منها من دون قتال، كما سيطر مسلحون محليون موالون له، من صبراتة وصرمان وورشفانة، على بوابةٍ أمنيةٍ تقع على الطريق الساحلي غرب العاصمة، وتسرّبت أرتالٌ من الآليات إلى مناطق حزام طرابلس الجنوبي، وحاولت زوارق حربية القيام بإنزال بحري شرق مدينة الزاوية. وعلى الرغم من سرعة التحرك الميداني وكثافة الترويج الإعلامي اللذين وسما العملية في بدايتها، فإن الآمال المعقودة عليها، لتحقيق إنجاز عسكري وسياسي سريع، وإيجاد أمر واقع، يعيد تشكيل المشهد الليبي، باءت بالفشل.
معركة العاصمة والرهانات الإقليمية
لم يكن المشهد العسكري والسياسي في ليبيا، منذ إطلاق ما تسمى "عملية الكرامة" بقيادة حفتر، في عام 2014، بمنأىً عن السياقات الإقليمية والدولية، والترتيبات التي طالت عددًا من البلدان، بهدف التحكّم في مخرجات الحراك الشعبي العربي منذ عام 2011، وإعادة إنتاج المنظومات الشمولية. ولم يكن ممكنًا تصور نشوء ظاهرة حفتر من دون دعم الإمارات أولًا، ومصر والسعودية وفرنسا ثانيًا. وتشير الدلائل إلى أن الجولة الجديدة من الصراع على تخوم طرابلس ليست حدثًا ليبيًا خالصًا، فقبل أيام قليلة من تحريك قواته نحو طرابلس، زار حفتر العاصمة السعودية، الرياض، والتقى خلالها الملك سلمان بن عبد العزيز وقيادات أمنية وعسكرية وسياسية، وسط تغطيةٍ إعلاميةٍ لافتةٍ في وسائل الإعلام السعودية. وعلى الرغم من أن البيانات الرسمية السعودية اكتفت بالإشارة إلى أن الطرفين "استعرضا تطورات الأحداث في الساحة الليبية والجهود المبذولة تجاهها بما يحقق الأمن والاستقرار فيها"، فقد تحدثت مصادر إعلامية غربية، مثل صحيفة وول ستريت جورنال، عن وعود سعودية بتغطية تكاليف الحملة العسكرية على طرابلس، ومدّها بالأموال والأسلحة.
كما تصاعد أيضًا الدعم العسكري واللوجستي الذي تقدّمه الإمارات لقوات حفتر مع انطلاق 
الهجوم على طرابلس، حيث رُصدت حركة جوية مكثفة بين مطارَي أبوظبي وبنينا في بنغازي لطائرات نقل عسكرية، بحسب ما كشفت مواقع متخصصة في رصد حركة الطيران ومصادر إعلامية عربية وغربية، وظهرت مدرعاتٌ وعرباتٌ وناقلات جند من النوع الذي تستخدمه القوات الإماراتية في اليمن، في أشرطةٍ دعائيةٍ بثّتها وسائل إعلام موالية لحفتر، وتمكّنت قوات حكومة الوفاق من غنْم أعداد منها. ويواظب قائد عملية الكرامة على أداء زيارات دورية إلى أبوظبي التي ساهم طيرانها المسيّر والحربي، بكثافة، في معارك بنغازي ودرنة والهلال النفطي، منطلقًا من القاعدة الجوية الإماراتية في منطقة الخادم، جنوب مدينة المرج، أو من قاعدة بنينا التي تتمركز فيها تشكيلةٌ من القوات الجوية الإماراتية. ومن المتوقع، قياسًا على معارك بنغازي ودرنة سابقًا، أن تلجأ الإمارات إلى تقديم مساندةٍ جوية، استطلاعية وقتالية، لقوات حفتر، جنوب طرابلس، انطلاقًا من قاعدة الوطية، في حال عجزها عن تحقيق أي تقدّم ميداني.
وفي السياق ذاته، يتواصل الموقف المصري الداعم لحفتر، والمعلن منذ اليوم الأول لإطلاق الهجوم على طرابلس، فقد استقبل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، خليفة حفتر، في 14 نيسان/ أبريل 2019، وكرّر تأكيده "دعم مصر جهود مكافحة الإرهاب والجماعات والمليشيات المتطرّفة لتحقيق الأمن والاستقرار للمواطن الليبي في كافة الأراضي الليبية". وتعدّ القاهرة من أبرز الداعمين، سياسيًا ودبلوماسيًا وعسكريًا، لحفتر منذ إطلاق عملية الكرامة في عام 2014، وسبق لقواتها تنفيذ غارات جوية لدعمه في درنة والهلال النفطي، كما تحتفظ بقواتٍ جويةٍ في قاعدة الخروبة. أما الموقف الفرنسي، فتشير بيانات المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، ضمنًا، إلى أن لديه معلوماتٍ تفيد بأن فرنسا ليست بعيدة عن التحرّك العسكري الذي يستهدف العاصمة. وقد أكدت ذلك مصادر إعلامية متواترة، كشفت عن انطلاق طائرات تجسس فرنسية، مسيّرة من قاعدة الوطية الجوية، الواقعة تحت سيطرة قوات حفتر، جنوب غرب طرابلس، لتقديم الدعم لقواته التي تخوض قتالًا ضاريًا ضد قوات حكومة الوفاق الوطني، في حين كشفت مصادر عسكرية تونسية وصول مجموعة من المسلحين الفرنسيين، يعتقد أنهم مستشارون عسكريون لدى قوات حفتر، إلى معبر حدودي بين البلدين، على متن سيارات دبلوماسية.
ويأتي تكثّف الدعم السياسي والعسكري الموجّه إلى قوات حفتر في سياق مرحلة سياسية إقليمية، مشابهة للمرحلة التي شهدتها بلدان عربية عدة في عام 2011، فعلى الحدود الغربية لليبيا، لا تزال الاحتجاجات متواصلةً في الجزائر، على الرغم من خروج الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من المشهد، ولا يزال مطلب إجراء تغيير عميق في منظومة الحكم قائمًا. أما على الحدود الجنوبية الشرقية لليبيا، وبعد حراكٍ امتد شهورًا، وأفضى إلى خلع الرئيس السوداني عمر البشير، لم يستقر المشهد بعد على اتفاق حول الفترة الانتقالية وآلياتها. وفي الأثناء، تتزايد المؤشرات إلى مساعٍ إقليمية، للتأثير في مخرجات الحراك السوداني من خلال "دعم وتأييد الخطوات التي أعلنها المجلس العسكري الانتقالي في السودان"، ووعودٍ "بتقديم حزمة من المساعدات الإنسانية تشمل المشتقات البترولية والقمح والأدوية".
حسابات الميدان وتعثّر الحسم
لم يكن الهجوم الذي شنّته قوات حفتر على طرابلس، ليلة 4 نيسان/ أبريل، مفاجئًا لمتابعي 
المشهد الليبي، خصوصا بعد سيطرتها على مدن وبلدات في الجنوب، غير أن اللافت للانتباه عدم تعاطي المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، ورئيسه فايز السراج، القائد الأعلى للجيش الليبي بموجب اتفاق الصخيرات، بحزمٍ مع التهديدات التي أطلقها كبار قادة قوات حفتر، والتقارير التي بثّها الإعلام عن أرتال عسكرية كبيرة تتجه إلى المنطقة الغربية والحزام الجنوبي للعاصمة، وعدم اتخاذه أي إجراءاتٍ عسكريةٍ احترازية. وساهم صمت المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق في "صنع المفاجأة" مع الدخول السريع لقوات حفتر إلى مدينة غريان، وفتح ثغرةٍ في الحزام الإستراتيجي الجنوبي للعاصمة، ثم تحريك مجموعاتٍ صغيرةٍ للسيطرة على بوابة 27 على الطريق الساحلي غرب العاصمة ومجموعات أخرى إلى المطار وقصر بن غشير ووادي الربيع والعزيزية، على التخوم الجنوبية للعاصمة، وسط ترويج إعلامي مكثّف ومنسّق، أمّنته صفحات تواصل اجتماعي وقنوات فضائية؛ يبث أغلبها من أبوظبي والقاهرة وعمّان وتونس، أظهرت ضخامة الأرتال العسكرية، وقوة تسلّحها، وترحيب الأهالي بها في كل منطقة تدخلها.
ويبدو جليًا، من الترويج الإعلامي المكثف الذي واكب التحركات العسكرية الأولى في تخوم طرابلس، أن قوات حفتر وداعميها الإقليميين كانوا يعوّلون على إحداث حالة عامة من الصدمة والهلع والإرباك تمنع تنظيم أي مقاومة، وعلى تشجيع مناصريهم داخل العاصمة على التحرّك لتشتيت جهود القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني، وفتح ثغراتٍ تسهّل السيطرة على العاصمة في حيّز زمني وجيز جدًا، كما كانوا يعوّلون على تسليم بعض الكتائب مواقعها وأسلحتها من دون قتال، على غرار ما جرى في مدينة غريان وبعض مدن الجنوب. وتتأكد حقيقة هذا السيناريو أكثر مع إعلان الأجهزة الأمنية لحكومة الوفاق، خلال الأيام الأولى للهجوم، عن ضبط مجموعاتٍ ممن وصفتهم بـ "الخلايا النائمة" في مواقع متفرقة من العاصمة، وعن التحفّظ على عناصر قيادية في كتائب مسلحة، أغلبها من ذوي التوجه السلفي المدخلي.
رد الهجوم
لم يدُم مفعول الصدمة الأولى طويلًا، إذ تمكّنت قواتٌ من مدينة الزاوية من طرد قوات حفتر 
التي تسللت إلى الطريق السياحي غرب العاصمة، خلال ساعاتٍ قليلة، وأسرت عشرات منهم، وغنمت آلياتٍ وأسلحة، ثم بدأت في التحرّك جنوبًا باتجاه العزيزية وحزام العاصمة. وفي الآن نفسه، انطلقت عملية تحشيد كبيرة للكتائب المسلحة من طرابلس ومصراتة وزليتن وزوارة وغيرها، وتوجيهها إلى العاصمة، وضمّها إلى قوات المنطقة العسكرية الغربية والمنطقة العسكرية الوسطى والمنطقة العسكرية في طرابلس التابعة لوزارة الدفاع بحكومة الوفاق الوطني. وعلى الرغم من أن قوات حفتر تمكّنت، في اليومين الثاني والثالث من الهجوم، من السيطرة على مزيد من المواقع جنوب العاصمة، بينها مطار طرابلس الدولي المتوقف عن العمل منذ عام 2014، فإن قوات حكومة الوفاق استرجعت أغلبها، في عمليات كرّ وفرّ، أوقعت مزيدًا من الأسرى من القوات المهاجمة، وعشراتٍ من القتلى والجرحى من الجانبين. ومع نهاية الأسبوع الأول، توقّف التقدم الميداني لقوات حفتر على جميع المحاور، وتبيّن أن الحسابات التي كانت معقودةً على تحقيق حسم ميداني سريع، لم تُبنَ على أسس موضوعية.
مع بداية الأسبوع الثاني للهجوم، دخل الطيران إلى ميدان المعركة من الجانبين، ففي حين شنّت قوات حفتر غاراتٍ متتاليةً على مواقع قوات الوفاق جنوب العاصمة، شنّ الطيران التابع للكلية الجوية في مصراتة غاراتٍ على مواقع قوات حفتر في غريان وجنوب العاصمة، وعلى خطوط إمدادها في الجفرة وجنوب سرت. وبالتوازي مع ذلك، كثّفت قوات حفتر القصف بصواريخ "غراد" والمدفعية على أحياء جنوب العاصمة، ما أدى إلى إحداث دمار كبير في منشآت مدنية، بينها مدارس ومخازن ومستشفيات ميدانية، وإلى نزوح آلاف السكان إلى الأحياء البعيدة عن مرمى النيران. وتشير تحولات المعركة من القتال السريع والمتحرّك إلى استخدام الطيران والصواريخ والمدفعية إلى تكتيك جديد يعتمد التدمير المكثف للبنى التحتية والمناطق السكنية لتسهيل التقدم، وهو التكتيك الذي استخدم من قبل في بنغازي ودرنة، وحوّل كثيرا من مناطقهما إلى أرض محروقة.
فشل التسوية
لا تبدو، حتى الساعة، أي مبادرات سياسية جادة لإنهاء القتال جنوب العاصمة، إذ اكتفت أغلب الأطراف ذات الصلة بما يجري في ليبيا، بما فيها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، بإصدار 
بياناتٍ تحثّ جميع الأطراف على التهدئة وإحياء العملية السياسية. وعلى الرغم من أن المواقف الصادرة عن دولٍ، مثل إيطاليا والولايات المتحدة، تميّزت بتحميل حفتر مسؤولية التصعيد، ودعته إلى إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الهجوم الحالي، فإنها لم تتحوّل إلى إجراءاتٍ دبلوماسيةٍ للضغط على حفتر وداعميه الإقليميين. أما على المستوى الليبي، فقد طوى الهجوم مشروع "المؤتمر الوطني الجامع" الذي كانت بعثة الأمم المتحدة تسعى إلى عقده في مدينة غدامس، منتصف شهر نيسان/ إبريل الحالي، بهدف الخروج بخريطة طريق لتوحيد المؤسسات؛ بما فيها الجيش، وإجراء انتخاباتٍ تفرز سلطة تنفيذية وتشريعية جديدة. وعلى الرغم من أن حفتر لم يُبدِ، منذ إطلاق عملية الكرامة، اهتمامًا يُذكر بالتوافقات والحلول السياسية، فإن السراج حرص، منذ تولّيه منصبه، على التحلّي بمقادير كبيرة من التحفظ والدبلوماسية، وحتى التماهي، في التعامل مع طموحات اللواء المتقاعد، غير أنه وجد نفسه مضطرًا إلى التخلي عن سياسة مسك العصا من الوسط بعد هجوم طرابلس. ومن المستبعد أن يعود قريبًا إلى سياسته السابقة، في ظل التحشيد الذي يميّز المشهد في طرابلس، ومعظم المنطقتين الوسطى والغربية، في مواجهة هجوم قوات حفتر.
خاتمة
طوى الهجوم الذي تشنّه قوات حفتر على طرابلس مرحلةً سياسيةً وعسكريةً، ودشّن أخرى. وبعد أسبوعين من القتال الضاري، لم تتمكّن القوات المهاجمة من تحقيق تقدّم مهم على جميع المحاور، ولم يُؤدّ الترويج الإعلامي الكثيف إلى إحداث اختراقاتٍ وسط العاصمة. وعلى الجهة المقابلة، تبدو المؤسسات السياسية ممثلةً في المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق، والعسكرية ممثلةً في الكتائب القادمة من شتى مدن الغرب، قد حققت قدرًا من توحيد الجهود واستوعبت الهجوم. وتذهب مؤشراتٌ عدةٌ إلى أن إطالة أمد المعركة قد يُحدِث تدميرًا كبيرًا في العاصمة وجوارها، ويحوّلها، في الآن ذاته، إلى مستنقعٍ للقوات المهاجمة، ويؤدي إلى تراجع مشروع عملية الكرامة، على الرغم من الدعم الإقليمي الذي يحظى به. ولا يستبعد متابعون أن يخلق الهجوم على العاصمة بكتائب ذات هوى قبلي ومناطقي وعقائدي، وما يقابله من تحشيد وتعبئة في المنطقتين الوسطى والغربية، مزاجًا تستغله القوى التي تطرح خيارات التقسيم والتجزئة.