إما السياسة أو السيسي

إما السياسة أو السيسي

16 ابريل 2019
+ الخط -
هتفت الجماهير السودانية: إما النصر، أو مصر. المدهش أن أغرب المصريين لم تقلقهم العبارة، لم تستفز شوفينيتهم، فهي تحصيل حاصل، تقرير واقع، أصبحنا مضرب الأمثال في الفشل، بعد أن كانت ثورتنا مضرب الأمثال في التغيير. المهم أن يعرف السودانيون الأسباب ولا يكرّروها. دعك من تشويش بعض المصريين ولغطهم حول إجهاض أول تجربة ديموقراطية مدنية، فلا هي كانت ديموقراطية، ولا مدنية، ولا تجربةً يعتدّ بها. التفاصيل أكبر من المساحة، وأكبر من احتمال المرارة. مشكلة المصريين الرئيسة كانت في استمراء الحالة، حالة التظاهر والميادين، من دون قائد حقيقي، ولا خطة، ولا تسييس للحراك. كان مجرد ذكر السياسة تهمة، القبول بمنصب وزير لأي مناضل معرّة، التفاهم والجلوس على مائدة التفاوض خيانة، الذهاب إلى سماع طرف، مجرد السماع، يتعدّى الخيانة، الأمر الذي أوصلنا إلى محمد مرسي ثم إلى عبد الفتاح السيسي، بطبيعة الحال، فالأول يفضي إلى الثاني، فشلنا.. ذلك لأننا تصوّرنا أن الميادين هي كل شيء، الشعوب هي كل شيء، الصناديق هي كل شيء، وهذا غير صحيح. بكل أسف غير صحيح، وفقا للتجربة، لا الأمنيات.
يحلو لكثيرين من المتورّطين في الشأن العام المصري أن يصوّروا المسألة باعتبارها أزمة نخب، أما الشعب فالشعب عظيم، الشعب وقف أمام لجان الانتخابات بالآلاف، لكننا خذلناه. كاتب السطور ردد هذا الهراء يوما ما، التجربة تُخبرنا بأن "حماس" الجماهير شيء، وإيمانهم شيء آخر. الناس صدّقونا، تحمّسوا، وقفوا أمام اللجان، انتخبوا، كل هذا جميل، لكنه لا يعوّل عليه. الناخب الذي منح الإخوان المسلمين ستة استحقاقات انتخابية هو من تغيّر مزاجه وثار عليهم وشارك في المظاهرات، ليتخلص من فشلهم في ملفات الأمن والوقود، وذلك كله في أقل من عام، لم تكن مسيرات 30 يونيو (في 2013) فوتوشوب. كانت حقيقةً تخزق العين، غفلنا عن دلالاتها فازددنا تيهاً وعدمية، وازداد النظام رسوخاً واستقراراً.. والبركة في سماسرة الحرب والمزايدات.
النخب بدورها لم تتفاهم. صدّقت تعامل "الإخوان" مع الصناديق بوصفها صناديق بجد. النجاح يعني التوقيع على بياض، والاستمرار أربع سنوات، واحترام كل الأطراف، وأولهم الجيش، ووزيره صاحب نكهة الثورة، والشرطة، قلب ثورة يناير، بتعبيرات مرسي وإخوانه. صدق التيار المدني، نزلنا لنتظاهر، ونطالب برحيل مرسي، كأنه رئيسٌ بجد، وإذا رحل سيأتي آخر عبر انتخابات ديموقراطية، بجد، كأن لدينا ديموقراطية، ديموقراطية راسخة، ومستقرّة، يؤمن بها الناس، فيحمونها ويدافعون عنها بحياتهم. لم يحدث ذلك، وما كان له أن يحدث...
من أين تأتي الديموقراطية، والامتثال هو خامة صناعة الوعي العربي منذ عقود طويلة، في الخطاب السياسي، والديني، والإعلامي، في مناهج التدريس، وطوابير الصباح، وحتى قصائد الحب والغرام، الامتثال والطاعة في المنشط والمكره، والتضحيات المجانية هي كل ما يعرفه المواطن العربي، الحقوق مقابل الواجبات، والتعاقدية بدلا من التراحمية، أفكار سيئة السمعة.. من أين ستأتيه الديموقراطية، وكل نوافذه لا تستقبل إلا هواء مسمّما بالاستبداد؟ إنك لن تجني من الشوك عنبا، قماشتنا لا تحتمل ما نريد تفصيله الآن، والقافلة تسير على سيرٍ أضعفها، على خطو الشعوب، لا الحالمين من الكتلة الحرجة، والتي يبدو أنها أدمنت "الحرج"..
الآن، السودانيون في الشارع، يحتاجون إلى قائد سياسي حقيقي، وليس مناضلاً متحمّساً. الثورة تهدم الأنظمة الفاسدة، لكنها لا تبني الأنظمة الديموقراطية. الديموقراطية عمل سياسي.. ثقافي.. إصلاحي.. تراكمي، يحتاج الوقت، كما يحتاج التفاهمات والتوازنات، وتجرّع سم الحقيقة أحياناً، وإذا كان ترك الميادين خطرا فابتذالها أخطر. وإذا كان الاعتراف بعدم أهلية شعوبنا لما نريده لها ثقيلا، فإن توهم هذه الأهلية والتصرّف وفقا لهذا أخطر. نزل الأتراك ضد الانقلاب على أردوغان، لا لأنهم يحبّونه، ولكن لأنهم تجرّعوا مرارة أربعة انقلابات. ضع ما شئت من الخطوط والدوائر والتظليل بالأحمر والأصفر والأخضر هنا، انقلاب وانقلاب وانقلاب وانقلاب، إلى أن تعلّم الناس، الناس في حاجة إلى الوقت، وما العبقرية إلا الصبر، هذا ما لم نفعله في مصر، فخسرنا، فلا تخسروا.