المحاكم العسكرية.. القمع بخاتمٍ قضائي

المحاكم العسكرية.. القمع بخاتمٍ قضائي

13 ابريل 2019
+ الخط -
منذ قيام الجمهورية الأولى، لعب الجيش المصري، انطلاقا من 23 يوليو/ تموز 1952، دورا أساسيا في الحياة السياسية. ومع الجمهورية الثانية، يقود كبار ضباط المؤسسة العسكرية ثورةً مضادةً لثورة 25 يناير/ كانون الثاني، حيث تهيمن تلك المؤسسة، في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على السياسة والاقتصاد، في ظل عسكرةٍ شاملةٍ للحياة المدنية المصرية، في مختلف نواحيها وقطاعاتها.
وفق أحدث تقرير للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان في مصر، شهدت الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري (2019) مثول 1638 مدنيا مصريا أمام محاكم عسكرية. تبدو هذه الزيادة غير المسبوقة في المحاكمات العسكرية للمدنيين طبيعية، ولا سيما حين يكون من بين أغراضها قمع أي معارضة لتعديلات دستورية يسعى إليها البرلمان المصري، من دون النظر إلى آراء الحركة المدنية، غايتها النهائية منح السيسي ولاية رئاسية جديدة، تمتد إلى ست سنوات، بدلا من أربع.
لسنا هنا أمام محاكم عسكرية ذات طابع استثنائي مؤقت، تقتصر مفاعيلها وصلاحياتها على أزمنة الحروب، كتلك المرتبطة بوجود احتلال عسكري أجنبي في غياب إدارة مدنية. وليست هي على شاكلة تلك المحاكم التي أنشأها الحلفاء، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخصّصت لمحاكمة مجرمي الحرب من اليابانيين والنازيين والفاشيين (محكمتي "الشرق الأقصى"
و"نورنبيرغ")، بل نحن أمام قضاء عسكري تغوّل ملتهما ما تبقى من حياة مدنية في أكثر من بلد عربي، وقامعا أي حراكٍ معارض، مدنيا أم مسلحا، سعى إلى تكريس نفسه دستوريا.
وظّفت المحاكم العسكرية التي أُنشئت في مصر، بموجب قانون صادر في العام 1966، لقمع معارضين سياسيين ومحاكمتهم، وأطلقت المادة 183 من الدستور الصادر عام 1971 يد الرئيس أنور السادات لتوطيد سلطته، حين أضفت الصفة القضائية على المحاكم العسكرية. وبموجب المادة السادسة من قانون القضاء العسكري، تمت محاكمة أكثر من 12000 مدني أمام محاكم عسكرية في عهد الرئيس حسني مبارك، خلال فترات العمل بقانون الطوارئ التي استمرت طوال عهده تقريبا (حوالي 30 عاما).
بعد ثورة 25 يناير في العام 2011، أصدر المجلس العسكري تعديلات على قانون القضاء العسكري. وعلى الرغم من إلغاء المادة التي تمنح رئيس الجمهورية سلطة إحالة أي متهم في أي جريمةٍ إلى المحاكمة العسكرية، استخدم المجلس سلطته التنفيذية لمحاكمة 12000 مدني إضافي أمام محاكم عسكرية، دانت أكثر من 8000 منهم. الاحتجاجات التي استمرت 18 شهرا، وطالبت بوقف العمل بقانون الطوارئ ومحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، حالت دون تمديد العمل بالقانون، وتوقفت محاكمة المعارضين أمام المحاكم المصرية بشكل شبه كامل عاما من حكم الرئيس محمد مرسي، لكن تلك الممارسة ظلت قانونية، حين حافظ دستور 2012 على شرعية محاكمة القضاء العسكري للمدنيين ودستوريتها، بتصنيفه المحاكم العسكرية ضمن الجهات القضائية.
لم يكن السيسي بحاجة إلى قانون طوارئ لتقنين محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، إذ استند إلى الدعم الشعبي للمؤسسة العسكرية التي يقودها، في غياب البرلمان، ليصدر عشرات من مراسيم رئاسية تسببت في تقويض سيادة القانون، وارتفاع عدد المدنيين الذين يحاكمون أمام القضاء العسكري. وفي 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، وبعد أيام من هجوم مسلح في شبه جزيرة سيناء، راح ضحيته عشرات الجنود المصريين، أصدر السيسي مرسوما يوسّع اختصاص المحاكم العسكرية في البلاد، معسكرا بذلك الملاحقة القانونية للمتظاهرين، وغيرهم من معارضي السلطة. نص المرسوم على أن تتولى القوات المسلحة "معاونة أجهزة الشرطة والتنسيق الكامل معها في تأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية". منذ ذلك التاريخ، وحتى الشهر الثالث من العام 2016، وثّقت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات محاكمة 7420 مدنيا مصريا أمام محاكم عسكرية، وحين استعاد المصريون حياتهم البرلمانية، أقر برلمانهم، في أغسطس/ آب 2016، تمديد العمل بالمرسوم خمس سنوات إضافية (أي حتى العام 2021).
من قانون الأحكام العسكرية إلى قانون القضاء العسكري، يمنح المشرّع المصري القضاء 
العسكري مزيدا من الاختصاصات والصلاحيات، مدخلا تعديلاتٍ على تنظيم المحاكم ودرجات التقاضي، بهدف إنشاء نظام قضائي يقارب القضاء المدني، يخلّص القضاء العسكري من شبهة مخالفة مواد دستورية، تتعلق بالمحاكمات العادلة والمنصفة. وعلى الرغم من أن المادة 204 من دستور 2014، حظرت محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، إلا أنها تضمنت استثناءً فضفاضا، يشمل الجرائم التي تمثّل اعتداءً مباشراً على كل ما يقع ضمن نطاق السلطة العسكرية. ومع توسيع الجيش أنشطته العسكرية، وحلوله مكان قوى الأمن الداخلي في حماية المنشآت العامة، وفق مرسوم السيسي، يصبح حظر محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري إجراءً عديم الجدوى. أما اعتبار أملاك الدولة ومؤسساتها، وفق المرسوم نفسه، أملاكاً عسكرية، فيحوّل المباني، والمصانع، والشركات، والطرقات، والمرافق المملوكة من الحكومة، إلى مساحاتٍ عسكرية، تتجرّد معها المحاكم العادية من الاختصاص، ليصبح مصير من يحاكم أمام محكمة عسكرية الإدانة شبه المحتّمة في ظل انعدام استقلالية القضاء العسكري، وتبعيته التي تحول دون فرص محاكماتٍ عادلةٍ مقارنة بالمحاكم المدنية، طالما خضع أعضاء هذا القضاء لقوانين الخدمة العسكرية التي تتطلب الانضباط، والطاعة، والولاء، للسلطة العسكرية الأعلى.
ويعتبر القانون المصري القضاء العسكري من هيئات وزارة الدفاع، ما يعني خضوعا إداريا وإشرافيا يخلّ في الاستقلالية المزعومة للقضاء العسكري، التابع لأحد أجهزة السلطة التنفيذية المتمثلة في وزارة الدفاع. أما أحكام القاضي/ الضابط العسكري فليست نهائية وقابلة للتنفيذ، بحكم أنها مشروطةٌ بتصديق رئيس الجمهورية، بوصفه قائدا أعلى للقوات المسلحة، أو من ينوب عنه من ضباط الجيش. طبعا، بإمكان سلطة التصديق الواسعة إيقاف تنفيذ الأحكام، أو تخفيفها، أو إعادة المحاكمة، أو حفظ الدعوى، أو إعادة المحاكمة بعد صدور الحكم بالبراءة، فعن أي استقلالية وعدالة سنتحدث؟
في مصر، وغيرها من بلدان تسيطر عليها العسكرتاريا، تتفاقم الأزمات الاقتصادية وانتهاكات 
حقوق الإنسان في آن، فتتهاوى مُدّخرات المصريين، وتَفقد عُملَتُهم أكثر من 50% من قيمتها، ويرزح المواطنون تحت ضغط ضرائب جديدة (ضرائب القيمة المضافة مثلا)، وزيادة التعرفة الجمركية، والرسوم الحكومية، على السلع، ولا سيما الأساسية، في مقابل توسع الاستثمارات، والأعمال، والشركات، التابعة للعسكر في قطاعات اقتصادية عديدة، وتقع الأملاك والمؤسسات تحت رحمة الإدارة العسكرية المتعاظمة للشؤون المدنية، وضمن اختصاص القضاء العسكري، ما يعني مزيدا من المواطنين الخاضعين لنفوذ المحاكم العسكرية، والمحاكمات غير العادلة التي يُراد لها أن تكون رادعا يحول دون تحدّي هيمنة الجيش على السياسة والاقتصاد، وغيرها من نواحي الحياة المدنية، لتتحول تلك المحاكم أدواتٍ للقمع الممهور بِخَاتَمٍ قضائي.
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.