الجزائر بين العسكر والسياسة

الجزائر بين العسكر والسياسة

12 ابريل 2019
+ الخط -
لو لم تفعل فعلها البيولوجيا، لكان الرئيس الجزائري المستقيل، عبد العزيز بوتفليقة، أجهزَ على مؤسسة الجيش، ولا سيما أنه أقال الرؤوس الحامية في الجيش والمخابرات، وهمّش مؤسسة الأخيرة وألحقها بالرئاسة، بعد أن كانت ملحقةً بالجيش. أعاد رئيس الأركان، أحمد قايد صالح، مؤسسة المخابرات إلى وزارة الدفاع، وسَمّى المستفيدين من رئاسة بوتفليقة بالعصابة، وبالتالي قطع شوطاً مع مؤسسة الرئاسة، واقترب من الشعب المُطالب برحيل الباءات الثلاث (عبد القادر بن صالح، والطيب بلعيز، ونور الدين بدوي)، بعد أن أجبرت الثورة الشعبية بوتفليقة على الاستقالة. الشعب الآن في موقع القوة، وكذلك مؤسسة الجيش. النظام القديم وليس فقط مؤسسة الرئاسة تتفكّك تباعاً، وتظهر مؤسسة الجيش بوصفها أقوى مؤسّسة متماسكة من النظام القديم، وحامية له وللدولة وللشعب في آن. هنا تبرز مشكلة حقيقية، كيف سيمتنع الجيش عن لعب دور الحامي للدولة وتسليم السلطة للشعب؟ المشكلة هنا أن مؤسسات الشعب "الثورية" لم تتبلور، والنظام القديم يتفكّك، وليس من ثقةٍ فيه. هذا الوضع هو ما يفتح على سيناريوهاتٍ مخيفةٍ يتناولها الإعلام، كاستلام الجيش ورئيس الأركان فيه قايد صالح الحكم، ويدعم ذلك عدم ظهور بديل من الثورة، أو غياب بديل سياسي من قوى المعارضة أو قوى السلطة. هذه النقاط، قد تسمح لأقوى مؤسسة متماسكة بالتقدم، واستلام الحكم، ومن هنا الخوف من الثورة المضادة، كما حال السيسي والنظام السوري وسواه.
لكن هل حقاً، وبعد كل التطورات الجزائرية، ورفض الجيش الانجرار إلى الخيار العسكري، يمكن للجيش أن يتقدّم، ويستلم الحكم كما فعلها في مصر عبد الفتاح السيسي؟ تتجاهل مقارنات كهذه الطابع المميز للثورة الجزائرية، ولطبيعة النظام هناك، ولما أحدثه بوتفليقة ذاته.
أولاً، همش بوتفليقة الرؤوس الحامية في الجيش والأمن، أي الذين لعبوا دوراً كارثياً في العشرية السوداء. وفي الإطار نفسه، فكّك التيار الإسلامي، وحاول دمجه بمؤسسات الأحزاب الدائرة في فلك السلطة منذ 1999. وهذا يعني أنّه طوى صفحة التسعينيات، وقياداتها من المؤسسات العسكرية والأمنية والمعارضة الإسلامية.
ثانياً، كانت الثورة الجزائرية الجديدة واعية لكل المشكلات العميقة، وبالتالي لم تعطِ للمعارضة القديمة القيادة، ولم تتقدّم، هي ذاتها، بقيادة سياسية وببرنامج محدّد، وساهم ذلك بتفاعل كل
 القوى الفاعلة وتفكيك النظام، بل والمعارضة. هذا كان مهما من قبل، ولكن استمرار ذلك، أي استمرار غياب رؤية للحل السياسي، ولشكل إدارة النظام القادم، أصبح أمراً خاطئاً مع تتالي تفكّك النظام القديم، ومحاولة قيادة الجيش الإمساك بأوراق قوية بيده "إلحاق مؤسسة الأمن بوزارة الدفاع، وإحالة شخصيات مالية، مقربة من بوتفليقة إلى المحاكم" وسواه كثير.
ثالثاً، كانت تجارب سورية واليمن وليبيا كارثية أمام أعين كل الدول، وذلك في حال تجاهل مطالب الشعب، واعتماد الخيار العسكري. وبالتالي كانت "مجزرة سورية خصوصا واليمن وليبيا" والتي أرادتها الدول العظمى، وسمحت بها، إنذاراً لكل الشعوب بألّا تثور مجدّداً. الجزائر والسودان تعلمتا الدرس جيداً، وذلك بألا تعتمدا ذلك الخيار؛ فهو خيار الدمار الكامل، وتسليم البلاد للخارج، الإقليمي والدولي.
رابعاً، يشكل التخوف الأوروبي، وليس الفرنسي فقط، من أزمة مهاجرين جديدة، مشكلة حقيقية في أنظمة الاتحاد الأوروبي، سيما أن هناك مشكلات سياسية كبرى بين اليمين الأوروبي الشعبوي والسياسات الليبرالية. وبالتالي هناك رغبة حقيقية في الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية. نقول ذلك، على الرغم من أن فرنسا دعمت زين العابدين بن علي قبل أن يسقطه الشعب التونسي 2011، ودعمت القذافي، والآن تدعم خليفة حفتر، وهي بذلك تدعم مصالحها في تلك البلدان، وترفض حدوث تغيير حقيقي محمول على الثورات الشعبية. فرنسا تريد انتقالاً ديمقراطياً هامشياً، وبذلك تغلق أبواب الجزائر أمام المصالح الأميركية تحديدا.
خامساً، ربما يشكل إرث الثورة الجزائرية، وكثرة التجارب في هذا البلد، ومنذ الاستقلال، من تجربة الاشتراكية إلى الليبرالية إلى العشرية السوداء، إلى فشل التزاوج بين السياسات الليبرالية ودور الدولة المركزي، كما الحال مع بوتفليقة، دافعاً لإدارة الظهر كلية لهذه التجارب، وإشراك الشعب في إدارة شؤون الدولة، وتأسيس مؤسسات دولتية بامتياز. وضمن ذلك الانتقال النهائي للديمقراطية شكلا سياسيا لإدارة الصراعات السياسية، والتوسع بأشكال ممارستها، بما يشرك الشعب في إقرار أفضل أشكال الإدارة والمؤسسات. لن نذهب نحو اليوتوبيا في تحليل الوضع المتحرك يومياً في هذا البلد. ولكن من العبث أن نغمض أعيننا عن التفكك الحاد في نظام هذا البلد، وعن إرث الجيش، وعن مميزات خاصة للجزائر.
سادساً، الشعب هو مفتاح كل ما يحدث في الجزائر، فهو القوة الحقيقية التي فكّكت النظام، 
وأعطت لقيادة الجيش دوراً مركزياً، سيما بعد 22 فبراير/ شباط، حيث كان قبل ذلك لمؤسسة الرئاسة وأحزابها وحيتان المال فيها. هذا أمر تعرفه جيداً مؤسسة الجيش، وتخشاه، فهي راقبت تفكّك النظام، وتعرف جيداً كارثية ما حصل في العشرية السوداء (1991-2002)، وبالتالي يتحدّد دورها، في تدوير الزوايا، وبما يمنع إعادة إحياء النظام القديم، الذي همشها، وليس من مصلحتها انتهاج الخيار العسكري، والبلاد بأزمةٍ شديدة، وعلى المستويات كافة.
سابعاً، السيناريو الوحيد الممكن والمرغوب حالياً هو الانتقال الديمقراطي، والبدء بتأسيس هيئة انتخابية نزيهة، وألّا ترتبط بالنظام، كما أشار باحثون كثيرون، وأن يُعدل الدستور أو يؤتى بدستور جديد عبر البرلمان الحالي، وتشكيل جمعية تأسيسية، ولاحقاً إجراء انتخابات نيابية، وبعدها رئاسية، حيث من أكبر الأخطاء الذهاب نحو فراغٍ مؤسساتي، وهو أفضل السيناريوهات لأسوأ الخيارات، ومنها إحكام الجيش قبضته على البلاد، أو حرب أهلية وتدخل إقليمي ودولي واسع.
درس الجزائر خصوصا، وكذلك السودان، يقول إن للثورات أسبابا عميقة، ولا تُختصر بالسياسي "من الاستبداد إلى الديمقراطية"، فهناك الاقتصادي، وهو سبب طرحته الثورة السودانية بوضوح. لن تنتهي موجة الثورات قبل تحقيق مطالب الأكثرية الشعبية المُبعدة عن المساهمة في إدارة شؤون الدولة، وعن الثروة، وتحقيق ذلك يتطلب بالضرورة اعتماد سياسات اقتصادية غير ليبرالية "جديدة" وديمقراطية حقيقية، وتأمينا كاملا لحقوق المفقرين في التعليم والصحة والسكن والعمل.